آفة النزعة التمجيدية في تدريس تاريخ األمة اإلسالمية المصطفى حميمو الدكتورعبد الحميد اسماعيل األنصاري ،استاذ بكلية الشريعة والقانون والدراسات اإلسالمية بجامعة قطر .وكم سعدت لما وجدته يقول في موقع األيام البحرينية أن دراسة التاريخ عبر مراحل التعليم العام للناشئة ،لها األثر الكبير في صياغة عقولهم وتشكيل وجدانهم وتوجيه سلوكهم وتنمية وعيهم بتاريخ أمتهم واستخالص الدروس والعبر منها، وبالتالي تصورهم للحاضر والمستقبل .كما أن لها اإلسهام األكبر في تشكيل نظرة شبابنا إلى الشعوب األخرى ،وفي ترسيخ التسامح وقبول اآلخر في البنية المجتمعية .ودراسة التاريخ من جهة أخرى ،له دور بارز في تقوية االنتماء الوطني للطالب تجاه مجتمعهم ودولتهم ونظامها السياسي .ومن هنا كانت أهمية بناء مناهج تاريخية تقوم على رؤى مـــــتـــــوازنـــــة وموضوعية لألحداث والشخصيات التاريخية ،بإبراز الجوانب اإليجابية والسلبية م ًعا لألعمال واإلنجازات ،بهدف تكوين عقلية نقدية لدى الطالب وإكسابه مهارة الفكر النقدي الحر منذ المرحلة اإلعدادية المبكرة، هذه المهارة النقدية هي التحصين المعرفي ضد أمراض التطرف والغلو والكراهية واالستعالء والغرور الكاذب .فماذا عن تدا عيات تلك النزعة التمجيدية في تدريس تاريخ األمة ؟ من تداعيات اآلفة تعجبت بل استنكفت من الحديث عن "المواالة في الشريعة اإلسالمية" ،في بحث أكاديمي عن الحياة االجتماعية في عهد العباسيين ،تم إنجازه سنة 2018م بجامعة من جامعات إحدى الدول العربية .وكأن للمواالة موجب شرعي في اإلسالم .ولتحديد المقصود بالمواالة جاء الباحث بقول ابن خلدون في المقدمة " :كأن يقول رجل لرجل آخر ليس لي عشيرة وال ناصر ،وإني انضم إلى عشيرتك وتنصرني وتدفع عن نوائبي ،وإن مت كان ميراثي لك ،فيعقد بينهما عقد الموالة". معنى ذلك أن األمن على حرمة كل من النفس والدين والعرض والمال الذي هو لب مقاصد الشريعة ،كان ينبغي، بموجب شرعي في المجتمع المسلم ،أن يشتريه الرجل الذي ليست له عشير تنصره وتدفع عن نوائبه ،بعقد من أحد رجال عشيرة قوية ،في مقابل أن يرثه من بعد مماته .وذلك لما كانت الدولة تنهكه وتنهب رزقه بالضرائب من دون أي عطاء .في حين ،وكما ينبغي وفق مقاصد الشريعة ،األمن على ُحرمات أي إنسان بالمطلق ،موكول اليوم إلى مؤسسات عمومية أمنية وقضائية وعلى نفقة المال العام .فكل إنسان مهما كان ،ثبت االعتداء على حياته أو جسده أو عرضه أو ماله ،تتحرك فورا وبتلقائية ال ضابطة القضائية من شرطة أو درك ،وتحت إشراف النيابة العامة ،للبحث في النازلة وتحديد المشبه به أو المشتبع بهم ،وعرضهم على القضاء للتحقيق ثم المحاكنة وفق مقتضيات القانون .وهذه العدالة تفرق بين مواطن وغريب وال بين شريف ووضيع وال بين فقير وال غني. اليوم ال ّ فكيف تكون من الشريعة اإلسالمية مؤسسة المواالة العتيقة التي سادت في المجتمع المسلم وفق ما شرح مغزاها ابن خلدون أعاله ؟ وكيف يصدر ذلك الحكم المعتدي على الشريعة اإلسالمية عن باحث أكاديمي مسلم بدولة مسلمة وفي األلفية الثالثة وتحت إشراف أساتذة جامعيين ؟ كيف يصح من هؤالء األكاديميين بأن يظلوا يعتقدون هم كذلك مثل العوام أن كل تقاليد وسنن األولين هي من صميم الدين ؟ ثم نتعجب لما يجد فيها المتطرفون ما يزكون به األوهام التي 1 تجعلهم يعتقدون أن الماضي كان كله أمجاد بفضل التمسك بالدين وأن الحاضر كله بؤس ومآسي بسبب التفريط في الدين ؟ كيف يصح ذلك بالمقارنة مع ما أوردناه أعاله بخصوص األمن على الحرمات اليوم ووفق مقاصد الشريعة، وهو أفضل وبكثير من تقاليد مؤسسة المواالة البائدة التي سادت في الماضي ؟ ومن ذلك تقاليد العبودية التي كانت من سنن األولين وتمت كذلك نسبتها لصحيح الدين .لما اكتشفت في شهادة الصحافي اإلنجليزي والتر هاريس في كتابه Morocco that wasأن أسواق النخاسة ببعض مدن المغرب ظلت تقوم جهارا حتى بداية القرن العشرين ،وجدت صعوبة في تصديقه .ولما قمت بترجمتها ونشرتها على صفحتي على الفيسبوك أدركت أن المفاجأة كانت عامة .اتهمه البعض بالتلفيق واالفتراء والبعض اآلخر بالمبالغة .وعندما اكتشفت شهادة مؤرخنا الناصري رحمه هللا في كتابه القيّم االستقصا ،أدركت أن الجهل بحقيقة تاريخ بالدنا بشكل متوازن هو الذي ينبغي اتهامه ،أو باألحرى النزعة التمجيدية في تدريسه .فدعونا نكتشف شهادة مؤرخنا ومشاعره في هذا الصدد. تعودوا على من بعد ما ذ ّكر بأن مالي وغانا كانتا بلدين مسلمين مفتوحين للتجار المغاربة ،أغضبه كون هؤالء ّ للتسري بهن طيلة مقامهم هناك .والذي كان يحكي له ذلك من دون حرج بل مستحسنا له ،صار يتلذذ شراء خادمات ّ صال الْك َِري َمة فِي خَلقهن فَوق ال ُم َراد بوصفهن كمن يش ّهي السامع فيهن ،وهو يقول " :إن هللا قد جعل فِي ِهن من ْال ِخ َ السواد َوحسن ْالعَينَي ِْن واعتدال األنوف َوبَيَاض ْاأل َ ْسنَان َوطيب الروائح".... من مالسة ْاألَبدَان وتفتق َ صار كثير فغضب مؤرخنا مما سمع وكتب يقول" :وقد تماأل الناس على ذَ ِلك وتوالت َ علَيْ ِه أجيالهم َحتى َ احيَةَ .و َهذَا لعمر هللا من ْالعَامة يفهمون أَن ُموجب االسترقاق شرعا ه َُو اس ِوداد الل ْونَ ،وكَونه مجلوبا من تِ ْل َك الن ِ علَ ْي ِهم َما علينا". من أفحش المناكر َوأ َ ْعظَم َها فِي الدّين .إِ ْذ أهل السودَان قوم ُمسل ُمونَ ،فَلهم َما لنا َو َ فنالحظ أن الناصري رحمه هللا ،الذي كان ابن زمانه ومثل جميع الفقهاء المسلمين حتى عصره ،كان ضا فقه خاص بالرق .فقه اختفى كما ينبغي له، ضا أن لالسترقاق موجب شرعي .وبالطبع كان هناك أي ً يعتقد أي ً ألنه مع إلغاء العبودية واختفائها ،لم يعد لوجوده من مبرر .المسوغ الوحيد لوجوده كان مجرد الحاجة لتدبير تقليد شنيع موروث ومتجذر في النفوس منذ القدم ،تعذر القضاء عليه مع مجيء اإلسالم .فاختفى ذلك الفقه كأنه لم يكن موجودًا ألنه ليس له أي موجب شرعي كما كان يُعتقد حتى عهد الناصريّ . وإال ُكنا وجدناه على األقل وبالتأكيد يُدرس بالجامعية في شعبة الدراسات اإلسالمية. ومسألة العبودية في القرآن وفي تعاليم النبي الكريم خصت مجرد ما تبقى منها حتى عهده .تعلق األمر بما تبقى من العبيد واإلماء في ذلك الوقت .وما كان من مسوغ السترقاق المزيد منهم .وذلك وفق ما ي ُقال وكما ينبغي ،أن اإلسالم قد سدّ باب الرق وفتح باب العتق .فاإلسالم جاء لتحرير البشر من عبادة العباد لعبادة رب العباد كما قيل لملك الفرس .فكيف يصح أن يسترق المسلمون بشرا أيا كان؟ فكان يجب تحرير من بين ما تبقى من العبيد عند المسلمين كل من أنس من نفسه القدرة على تحمل َ يبحث ع ّمن يسترقه من جديد ،كما حصل مع العديد مسؤولية العيش كإنسان حر ،وإال وجدته من بعد تحريره من العبيد الذين تم تحريرهم في الواليات المتحدة إبّان ما سمي بحرب االنفصال guerre de sécessionما بين 1861و .1865وأورد والتر هاريس السالف الذكر في شهادته مثاال على ذلك بالمغرب .وهذا هو تفسير عدم ورود األمر بتحريرهم دفعة واحدة في القرآن الكريم .فتم تحرير الراشدين نفسيا من بينهم إما منّا أو 2 بالمكاتبة .وتم االحتفاظ بغيرهم مع واجب رعايتهم كأفراد من األسرة إلى حين يتمكنون من إعالة أنفسهم بأنفسهم أو حتى وفاتهم. وكما تقدم ،ما كان من مسوغ السترقاق غيرهم .فال توجد ،وكما ينبغي ،جنحة أو جناية يعاقب عليها الشرع باالسترقاق .حكم أسير الحرب في القرآن الكريم هو تسريحه إما منّا أو بدفع فدية ،وال يسترق بأي حال من األحوال .وبما أن هذا هو حكم األسير المقاتل ،فبأي حق يُسترق األبرياء من النساء واألطفال والرجال غير المقاتلين وتستباح حرماتهم التي جاء اإلسالم لحمايتها ؟ ال حق في ذلك على اإلطالق .فلوال فتح باب الرق من جديد ومن دون موجب شرعي ،لكانت العبودية قد انتهت واختفت من تلقاء نفسها في المجتمع المسلم عند وفاة آخر عبد وآخر أمة ممن تبقى منهم حتى عهد الرسول الكريم .ولكن ولألسف الشديد غلبت العادة الشنيعة وسيطرت وهيمنت على قيم وتعاليم ومقاصد الشريعة النبيلة. ومن تعود المسلمين حتى يومنا هذا على تنزيه السلف عن الخطأ وكأنهم مالئكة وليسوا بشرا ،تجدهم يجتهدون في إيجاد األعذار إلبقائهم على ممارسة االسترقاق واالستئناس به واالستمتاع بمحرماته .وهي أعذار واهية ،ألنه إذا كان العدو يقوم مثال باسترقاق األسرى المسلمين أو يعذبهم أو يمثل بأجسادهم أو يحرقهم أو يدفنهم أحياء ،فما كان يجوز للمسلمين فعل الشيء نفسه بأسراه .المسلم هو القدوة والنموذج المت ّبَع بالنسبة لغيره ،وليس العكس. وكما سنرى في بقية شهادة الناصري ،فإن العبودية التي سادت في مجتمع المسلمين طيلة تاريخهم ما كانت لها على اإلطالق أية عالقة بأسرى الحرب .بل المترفون من كل أطياف خاصتهم وليس عامتهم ،هم الذين ظلوا يجدّون ويجتهدون في شراء العبيد من أسواق النخاسة أو من داخل دور النخاسين كما جاء في شهادة والتر هاريس ،كشرائهم السلع وبهائم األنعام .بل كان النخاسون يجلبون لهم ما يشتهون من أصناف الرقيق من جميع أنحاء العالم .وكان البد من إخصاء الذكور من بينهم المطلوبين للخدمة في الحريم ،إما من مصدر البضاعة أو عند وصولها. وبقية حديث الناصري مؤرخنا الجليل ،عن العبودية مبني بالكامل على هذا التقليد البشع الذي أريد أن يكون له موجب شرعي لتبريره .لذلك ليس من المفيد التوسع فيه هنا ،حتى ال نحيد عن موضوع هذا المقال .إال أن هذا التقليد المؤسف وبحسب شهادة الناصري نفسه ،قد تسبب كعادته في مآسي االعتداء على حرمات البشر مثل التي حصلت في عهد الجاهلية .فماذا قال عن مآسيها في المغرب حتى نهاية القرن التاسع عشر ؟ عن أهل الْعدْل َوغَيرهم أَن أهل السودَان (مالي) ْاليَ ْوم َوقبل ْاليَ ْوم يُغير قال في نفس الكتابَ " :وقد استفاض َ عن مداشرهم وعمرانهم" .ثم بَعضهم على بعض ويختطف بَعضهم أَبنَاء بعض ويسرقونهم من ْاأل َ َما ِكن النائية َ قالَ " :وإِن فعلهم ذَ ِلك كَفعل أَع َْراب ْالمغرب فِي إغارة بَعضهم على بعض واختطاف دوابهم ومواشيهم أَو صار الفسقة ْاليَ ْوم َوأهل الجراءة على هللا يختطفون أ َ ْو َالد ْاألَح َْرار من قبائل سرقتها" .وأضاف قائال" :بل َ ارى ار الن َ ْالمغرب وقُراه وأمصاره ويبيعونهم ِفي ْاألَس َْواق جهارا من غير نَ ِكير َو َال امتعاض للدّينَ .و َ ص َ ص َ َو ْاليَ ُهود يشترونهم ويسترقونهم بمرأى منا ومسمع" .وهذا حتى نهاية القرن التاسع عشر .وختم استنكاره قائال امل لَ ُهم على ذَ ِلك قلة الدّيانَة َوعدم ْال َو ِازع .فَكيف يسوغ للمحتاط لدي ِن ِه أَن يقدم على ِش َراء َما ه َُو من " َو ِإن َما ْال َح ِ اإل ْقدَام على فرج َم ْش ُكوك ؟". َهذَا ْالقَ ِبيل ؟ َوكَيف يجوز لَهُ الت َ س ِ ّري بإناثهم َو ِفي ذَ ِلك َما ِفي ِه من ْ ِ 3 الدروس والعبر القول بأن هذا من الماضي ،كم أريد أن أصدق ذلك .إال أنه سرعان ما تشعر بخيبة األمل لما تقرأ هنا وهناك أخبارا عن اختطاف النساء والفتيات اليزيديات ،على سبيل المثال ،بكردستان في شمال العراق .والذين يسترقونهم ً للتسري بهن وللعبث بأعراضهن وباسم اإلسالم ،واإلسالم براء من أفعالهم الشنيعة مثل براءة الذئب من دم يوسف ،لم ّ يُبعثوا من القبور وال سقطوا من السماء مع المطر .إنهم جاؤوا إلى هنالك ،ليس فقط من عالمنا المسلم وتعلموا في ضا من أوروبا .و ُوجد من بينهم حتى بعض األوروبيين الذين مدارسه ومن بينهم حتى من درس بجامعاته ،ولكن أي ً أسلموا حديثًا .وما عُرف حتى عصر الناصري بالعبودية بموجب شرعي ،تواجد في أذهانهم كما كان من قبل .وببالدنا ال زلنا مع األسف الشديد نسمع بين الفينة واألخرى أخبار تواجد من بايعوا تلك المنظمة بالعراق والشام لما يتم القبض عليهم .وسرعان ما أتصور أن العبودية بموجب شرعي معششة في أذهانهم. لو أنهم تلقوا جمي ًعا وكما ينبغي درو ًسا في التاريخ حول مأساة العبودية عبر العصور وفي جميع أنحاء العالم، لكانوا قد رفضوا من تلقاء أنفسهم فكرة العبودية بموجب شرعي ،ولبرأوا ،كما ينبغي ،اإلسالم منها وبقوة .ولما انجذبوا أصال ألي تطرف على اإلطالق .لكن مع األسف الشديد ال تزال تلك هي الحقائق الصادمة من واقع اليوم .فماذا عن الدروس والعبر ؟ يبقى العالج الشافي لكبح آفة التطرف ،في نظري ،في تدريس التاريخ مكتمال ومتوازنا كما هو بحلوه ومره. التاريخ الذي من شأنه أن يزيل عن الماضي تلك النزعة التمجيدية التي ال تزال تخفي عن أجيال المسلمين الصاعدة ما كان فيه من مثالب بالنسبة للرعية وحتى للحكام .وليس تاريخ السالالت الحاكمة المبثور .لماذا وصفته بالمبثور؟ فمعركة وادي المخازن ،على سبيل المثال ،والتي دائ ًما ما يُعلي من كبرياء المغربي والمسلم ،متى وأينما ذ ُكرت ال يتم الحديث بما يكفي عن سببها األصلي .ذلك السبب الذي كان من أشد مثالب ماضي األمة المسلمة ،أال وهو آفة ودوامة الصراع على الحكم. فقد كان ذلك الصراع قُبيل معركة وادي المخازن بين السلطان عبد الملك من جهة وابن أخيه محمد بن عبد هللا الغالب من جهة ثانية .خلعه عمه بدعم من األتراك وأخذ مكانه .فذهب المخلوع للبحث بدوره عن دعم ملك إسبانيا. الملك الذي فضل االحتفظ به البتزاز عبد الملك .ولما فطن لذلك لجأ إلى طلب دعم سباستيان ملك البرتغال .وذلك في مقابل الوعود بالتخلي له من جديد عن بعض الموانئ .هذا من بعد أن طرد جده محمد الشيخ وعمه أحمد األعرج البرتغاليين من عدد كبير من الشواطئ المغربية. لذا ب دال من التوقف عند االنتصار في معركة وادي المخازن ،الذي ينبغي أن يكون موضوع مادة التاريخ المتوازن هو أيضا تدريس تاريخ آفة الصراع على السلطة مثال ،والتي أثتت كل ماضي المسلمين .ألنها اآلفة التي ظلت تتسبب في مآسي كل من الحكام والرعية وأعاقت تقدمهم من بعد ما أوقفته ،فتخلفوا وتقدم غيرهم .ولو أنه تم توسيع تدريس مادة التاريخ إلى ماضي باقي األمم ألدرك المسلمون أن أوروبا ما عرفت تلك اآلفة .ظل ال ُملك فيها بيد بضع األسر من دون صراع عليهما ال من داخلها وال من خارجها .فلماذا ؟ وماذا ترتب عن ذلك االستقرار السياسي ؟ هذا هو ما كان ينبغي البحث فيه وتدريسه. وماذا عسى الطالب المسلم باإلعدادي والثانوي أن يستفيده من مثل هذا الموضوع مكتمال في مادة التاريخ المتوازن؟ أوال لن يُشمت في ماضي أسالفه الذي كان مثل ماضي باقي البشر .وبمعيار أمن العباد على حرماتهم الذي 4 يشكل مقاصد الشريعة ،يدرك أن نظام الحكم البائد كان دون مبتغى اإلسالم .فال يحن إليه وال يفكر في إعادة إنتاجه من جديد مع ما في ذلك من تهديد ألمن البالد والعباد .وإذا كان حال الحكم في زمانه ال يزال على نفس الحال القديم ،تجده يفكر في أفضل منه حيث ما ُوجد في العالم ،وليس أبدا في الرجوع إلى مثله في الماضي الذي صار يعرفه جيدا .أما إذا وجده أحسن من دي قبل فيسعى للمساهمة في الحفاظ عليه وفي تطويره ،وليس أبدا في هدمه وتخريبه مهما ساءت أحواله فيه .فهذا مثال على نوعية مواضيع مواد مادة التاريخ المتوازن التي من شأن تدريسها أن ييسر تثقيف وتربية الشباب السلم التربية الموسوعية المطلوبة لتحصينه ضد أي انحراف وأي تطرف. وعلى هذا المنوال وبدال من تاريخ السالالت التي تعاقبت على الحكم ،ينبغي أن يهتم تدريس التاريخ المتوازن بتاريخ العدالة في عالم المسلمين وعالم غيرهم للمقارنة ،وتاريخ الجباية وتاريخ التشريع وتاريخ الحرية .الحرية التي كانت مطلب شباب ما سمى بالربيع العربي .الحرية التي ظهر الشباب المسلم وكأنه يكتشفها ألول مرة ،بسبب غياب تدريس تاريخها .فظلت تختلط في الذهن بالحرية اإلباحية كما حصل مع مؤرخنا الجليل الناصري في كتاب االستقصا. في حين قد تم تكرار الكلمة بمعناها السياسي مئات المرات ،ومنذ القرن األول للميالد ،في كتاب "تاريخ روما منذ تأسيسها" ،للمؤرخ الروماني تيتوس ليف المتوفى سنة 19م. تلك الحرية التي لو كان ماضيها من مواضيع مادة التاريخ المتوازن لعلم الشباب المسلم أنها بدأت قصتها في روما منذ القرن الثامن قبل الميالد .وبدأت قصتها منذ 697م بجمهورية البندقية التي دامت فيها إحدى عشر قرنا ،ومنذ عام 1215م في إنجلترا مع دخول الميثاق العظيم Magna Cartaحيز التنفيذ ومع إنشاء مجلس اللوردات ثم مجلس العموم في نفس القرن ،ومنذ عام 1620م في قرية بليموث بأمريكا الشمالية لما هاجر إليها الالجؤون البروتستانت على متن سفينة ماي فالورس هاربين من االدطهاد بإنجلترا .وهم المعروفون باآلباء الحجاج .لو تم هكذا تدريس تاريخها في َ ولبحث عما إذا كانت لها أيضا قصة في تاريخ مدارسنا لما كان شبابنا من بين آخر من يدرك معناها السياسي بالعالم. أسالفهم. وعالوة على تدريس تاريخ الحرية ،ينبغي تدريس تاريخ نشأة وتطور الخدمات العمومية بالغرب والشرق، وتاريخ الصحة والطب وتاريخ العلوم والتعليم والزراعة والتجارة والصناعة ولما ال تاريخ نشأة البنوك وأسواق األوراق المالية وتطورها ؟ وتاريخ البحرية بجميع أنواعها وتطورها الخ ...أي تاريخ كل ما له عالقة من قريب أو من بعيد بالحياة اليومية للناس ليس فقط ببالد المسلمين بل حتى ببالد من حولهم .ويجب تدريس كل من تلك المواضيع بطريقة شاملة ،كتاريخ العدالة مثال ،في العالم المسلم مع المقارنة بتاريخها بباقي العالم ومقارنتها أخيرا وبصفة خاصة بالعدالة اليوم .ثقافة موسوعية نـــعــــم ،وبقدر اإلمكان ،لما ال ؟ وذلك حتى تنشأ عند المتلقي الرغبة في إغنائها طيلة حياته ،فال يجده المتطرفون خاوي الوفاض وال يصطادونه وال يُغررون به. منهج تعليمي أساسه الــــتـــربـــيـــة قبل كل شيء ،بتوسيع المعرفة .يتم إعداد برامجه وتطويرها من قبل األكاديميين في شعب التاريخ والجغرافيا بمختلف كلياتنا .ويتم تكييفه مع كل مستوى من مستويات التعليم اإلعدادي يغرر بالشباب والثانوي .وبالنظر لطبيعته الـــــتــــربـــويــــة يُكلف بتدريسه أساتذة التربية اإلسالمية ،حتى ال يأتي من ّ باسم اإلسالم .هم األساتذة األقدر على الحكم على األمور بمعيار مقاصد الشريعة السمحة .مع العلم أن الجميع ،أساتذة وطلبة ،سيظلون دوما بحاجة إلى إثراء معارفهم ،من أجل إزالة تلك النزعة التمجيدية عن الماضي وكشفه على حقيقته ومقارنته المقارنة الصحيحة بالحاضر .الحاضر الذي ينبغي تقييمه بميزان القيم والمقاصد النبيلة لإلسالم والكامنة في الحفاظ على أمن حرمات البالد والعباد .فهذا في نظري هو اللقاح الثقافي والتربوي الف ّعال ضد آفة التطرف والتشدد. أليست الوقاية خير من العالج ؟ 5