القضاء والتوثيق بنظام حكم المغرب العتيق المصطفى حميمو ال يمكن للمرء أن يقيم بشكل صحيح حاضر بلد ما من دون مقارنته بماضيه .حول هذا الموضوع ،تفضلت صحيفة هسبرس بنشر مقالي تحت عنوان "صفحات من تاريخ المغرب عن شهود عيان أجانب" .تغطي هذه الشهادات جوانب مختلفة من الحياة اليومية لعموم المغاربة في النظام القديم .ومن أجل التأكيد على أهميتها ومصداقيتها ،دعونا نرى واقع القضاء والتوثيق في تلك الفترة من تاريخ البالد وفقًا لبحث أكاديمي مغربي هذه المرة استشهد فيه بشاهدين مغربيين من نفس الفترة. يتعلق األمر ببحث األستاذ أحمد التوفيق ،أحد أوائل الباحثين المغاربة من الجيل الجديد في التاريخ .بحث قيم نشرته كلية العلوم اإلنسانية واآلداب بالرباط تحت عنوان "المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر" (حالة إنولتان .)1912-1850وقد خصص فيه األستاذ فصال للقضاء في مغرب ما قبل االستعمار. وكما ينبغي ،لم يفته ،وبحق ،إزالة الخلط بين القضاء كما ينبغي أن يكون وفق كتب األحكام من جهة وبين كيف كان في الواقع المعيش وفق كتب التاريخ من جهة ثانية .فقال إن صورة القاضي الممارس لجميع األحكام طبق أصول شرعية معروفة هي الصورة المثالية الموجودة في كتب األحكام ككتاب الماوردي وغيره .ثم أضاف قائال أنه إذا كان لها من وجود تاريخي جزئي ففي المدن اإلسالمية الكبرى في عصورها الزاهرة. والشيء نفسه ينطبق على الصورة المثالية للنظام السياسي اإلسالمي وفق ما جاء في نفس كتب األحكام، والتي ،وفق كتب المؤرخين ،لم يكن لها واقع معيش في بلدان المسلمين .إال أن غالبيتهم بل كلهم ،وبسبب الخلط بين الصورتين المثالية والواقعية ،اعتادوا على التلذذ متوهمين ،بأن ذلك الحكم المثالي هو الذي ساد طيلة تاريخ أسالفهم. وال يقبلون باالطالع على حقيقة ما كان في الواقع كما هو وفق كتب المؤرخين المسلمين ،ما دام ليس هو ما ينبغي أن يكون كما أحبوه في كتب األحكام .فظل يحلو لهم تصور أسالفهم مالئكة أطهارا يمشون على األرض ،وليسوا بشرا يصيبون ويخطئون. ولما تواجههم الحقيقة بمرارتها يحلو لهم تكذيبها والتشكيك في صحتها .وإذا ما سلموا بحقيقتها يحلو لهم التوهم بأن المنافقين ،وال سيما اليهود كعبد هللا بن سبأ األسطوري وأمثاله ،كانوا هم السبب الحقيقي في حصولها. وال يزال يتغذى هذا الوهم من غياب تدريس التاريخ كما هو بحلوه ومره في وقت مبكر من السن الدراسي للمتلقين. غياب خطير حان وقت التخلي عنه ألن منه يتغذى التطرف. وكدليل على ذلك الواقع الذي تعود المسلم على الفرار من معرفته ،وبخصوص القضاء في مغرب ما قبل االستعمار في هذه الورقة ،نجد حقيقته التي سادت في القرن الثامن عشر مثال ،ببواديه وجباله ،والتي وثقها حينها مفتي دمنات محمد الكيكي في كتابه "مواهب ذي الجالل فى نوازل البالد السائبة والجبال" .والحظ هنا أن وصف البالد بالسائبة من طرف مغربي منذ القرن الثامن عشر ،ليس من اختراع األجانب كما يحلو توهمه للذين على عادتهم يستنكفون كل واقع مر في ماضي أسالفهم ويكذبونه أو يتهمون غيرهم من األعداء بافترائه .وقد أورد ذ. التوفيق شهادة الكيكي في بحثه .وهو يقول فيها أن الدولة المغربية كانت ،بسبب محدودية إمكانياتها المادية ،تكتفي بانتداب الناس في البوادي للتعليم والتفقه واتباع األحكام الشرعية اعتمادا على وسائلهم الخاصة ،وال تتحمل بصفة 1 منتظمة سوى نفقات القضاة في بعض العواصم الكبرى .األمر الذي كانت تنشأ عنه "أزمة القضاء الشرعي" في البوادي. ثم يضيف قائال أنه للحصول على حقه أو على مجرد جزء منه ،كان على المتقاضى البسيط أن ينفق ضعف قيمته أو أكثر .وذلك بسبب جور الحكام وقلة األتقياء وكثرة شهادة الزور والرشا وتزوير الخطوط ،أي خطوط وتوقيعات العدول الثقاة وفق فهم ذ .التوفيق .وذلك مع انعدام من يميز ما اختلف منها لكثرة الجهل .وبما أن قضاة البوادي و عدولها ليست لهم أوقاف على خططهم ،فهم يتسلطون على من ألجأته الضرورة إليهم حتى استأنسوا بأخذ الرشا على األحكام وكتابة الزور .واعتلوا بأن أموال العامة حالل لهم الستغراق ذممهم ،أي بسبب غياب تكفل الجماعة بأداء أجورهم ،وفق فهم ذ .التوفيق دائما. وهنا نالحظ أن الشاهد الكيكي يرد اللوم في ذلك إلى غياب المؤسسات الرسمية في نظام حكم هش من أساسه بسبب قلة وسائله المادية كما تقدم .فاللوم على نظام الحكم العتيق والضعيف من أساسه وليس على الحكام وال على المحكومين. وفي هذا الجو القضائي الواقعي وفق كتب التاريخ والمخالف لما ينبغي أن يكون وفق كتب األحكام ،كان هناك بالتأكيد قضاة رسميون وغير رسميين ،فضالء ونزيهون .ولكن بما أن اختيار القاضي كان حرا ويعتمد على موافقة جميع األطراف المتقاضية ،فقد كانت تطلب خدماتهم فقط األطراف الباحثة بصدق عن حكم عادل .وبال شك كانت قليلة العدد ،ألن مثلها غالبًا ما تتفق على تسوية نزاعاتها وديًا فيما بينها. هكذا أمثال هؤالء القضاة العدول والمتقون الذين غالبا ما كانوا بحكم واقع حالهم عاطلين عن العمل وعديمي الجدوى في مقابل جدوى غيرهم ،كانوا يفضلون التفرغ للتدريس واالبتعاد عن مثل ذلك القضاء الفاسدة حتى ال يزكوه بحضورهم .وفي قضية اإلمام أبي حنيفة الذي توفي في السجن ،خير مثال على ذلك .بحسب بعض الروايات قد عاقبه الخليفة العباسي الثاني بسبب رفضه منصب القضاء الذي عرضه عليه من بعد أن أبدى معارضته لسياسته التي اعتبرها جائرة. وعند الفحص الدقيق ،نجد أن شهادة الكيكي من داخل مجتمعه في الريف في ذلك الوقت ،ال تختلف عن تلك التي أدلى بها الشهود األجانب فيما يتعلق بممارسة القضاء من طرف أعوان السلطة المركزية من قواد بمختلف البوادي وباشاوات بكل المدن .الشهادات التي أوردتها في كتابي السالف الذكر أعاله. عالوة على ذلك ،وبعد أن أشار إلى أن القايد في البوادي كان يمارس القضاء بصفة شاملة مع توفره على السلطة والقوة الالزمة لفرضها ،نجد ذ .التوفيق يقول في دراسته أن توسيع سلطته القضائية على حساب صالحيات القاضي المدني ،ال يعني أنه كان يجور في أحكامه لصالح متقاض على حساب خصمه بسبب جهله للقانون .بل غالبًا ما كان يحظى بنصيب ولو يسير من التعليم ،كما كان محا ً ضا في بطلبة وفقهاء. طا أي ً ويضيف أنه في المسائل الجنائية التي كانت من اختصاصه لوحده من دون غيره ،لم يكن القايد ملز ًما في أحكامه بقوانين مدونة .وعندما يريد ،يمكنه استشارة أحد القضاة أو المفتين .ثم يشير إلى أن ظلم القايد ،عند وقوعه، لم يكن بسبب غياب مدونة قانون جزائي فحسب ،بل بسبب سلطته المطلقة وانحيازه ألحد المتقاضين على حساب خصمه أو خصومه مقابل استالم رشوة ،وبسبب دوافع أخرى ذكرها الكيكي. وقال ذ .التوفيق إن تعسف القائد المخزني يشتد في أحكامه عندما يكون طرفا في النزاع ،إما كممثل للدولة وساهر على أمر خدمتها ،أو بصفته المالك األكبر في القبيلة .فيسعى بذلك إلى توسيع ثروته على حساب عوام محكوميه ،أو حتى أعيانهم في بعض األحيان ،وألنه يسخر العوام بصفة خاصة في خدمة تلك األمالك والثروة. وهذه العدالة التي وصفها ذ .التوفيق بالسياسية ،قال أنها هي التي كان يستفيد منها األعيان ،لوجاهتهم عند القايد ولمقدرتهم على إرشائه ،مع العلم بأنهم كانوا يستطيعون أن يمارسوا نفس التأثير على كتاب اإلشهاد من عدول القاضي .األمر الذي من أجله تعرضت الوثائق العدلية لكثير من الذم ،حتى حرم بعضهم ،أن يؤخذ عنها أجرا يزيد 2 عن األجر المناسب للزمن الذي استغرق في كتابتها .مشيرا هنا لفتوى في كتاب ألجوبة الناصرية لمحمد الدرعي. وقد تستغرب لهذه الفتوى التي ال تحرم مجرد كتابتها. وفيما يتعلق بنظام السجون ،وبحسب محمد الغجدامي هذه المرة ابن زمن تلك الفترة ،في كتابه "التسلي عن االفات بذكر االحوال و ما فات" والذي أورد ذ .التوفيق منه شهادته في بحثه ،يقول إن سجن قصبة دمنات كان مليئًا بالسجناء .ومع غياب األمل في الخروج منه ذات يوم بالتساهل ،قرر عدد كبير منهم الفرار منه بالقوة .فحطموا الباب وقتلوا الحارس وهربوا .بقي منهم فقط أولئك الذين لم يتحملوا العيش إلى األبد هاربين بعيدا عن موطنهم. ويرى ذ .التوفيق أن سبب قسوة الغجدامي في حكمه على نظام السجون ،هو غياب مدونة قانون جزائي تضبط مدة السجن عن كل مخالفة أو جريمة ،كما هو الحال اليوم بالدولة العصرية ،وبسبب ما كان يعتبره القايد مخالفات وجرائم .األمر الذي جعله كلما ذكر السجن نعته بـ "قبر األحياء" .وتجدر اإلشارة هنا إلى أنه في كثير من األحيان ،حتى كبار أعيان النظام كالوزراء ،ما كانوا يفلتون من دخوله ويبقون فيه حتى الموت فيه بحق أو بباطل. نظرا ولتفسير كل هذا ،ومن دون تبريره وال تزكيته بالطبع ،يقول ذ .الوفيق في مقطع آخر من بحثه ،أنه ً لضعف وسائل السلطة المركزية لفرض سلطتها بشكل صحيح على كل ترابها ،كان يجب على القايد ممثلها في منطقته أن يكون بالضرورة هو األغنى من بين جميع رعاياه ،حتى يتمكن من فرض سلطته عليهم. طريقة حكيمة لإلشارة ،في نظري وبحق ومرة اخرى ،إلى أن تلك األوضاع البائسة ما كان فيها من مذنب، ال من الحكام وال من المحكومين .لو كنا مكانهم لما كان بإمكاننا أن نكون أفضل منهم .فال يصح أن نحاكمهم ،وقد عاشوا تحت وطأة نظام حكم عتيق وهش وضعيف في جوهره ومن أساسه .نظام ما كان بإمكان السلطة المركزية فيه تستطيع التشديد على ممثليها في القيام بمهامهم هنا وهناك بمختلف المدن واألقاليم من دون المخاطرة بفقدان وضررا للبالد والعباد. تدميرا السيطرة عليها وتعريضها لفوضى التسيب األكثر ً ً الغرض من مقالي هذا ليس أبدا أكاديميا .بل الغرض منه معرفي وباألساس تربوي .لذا في ما تقدم ما يكفي ألخذ العبرة والدروس حتى نتمكن من تقييم ،كما تقدم ،حاضر البالد بالشكل الصحيح بالمقارنة مع ماضيه .ونخرج بالخالصة التي مفادها أن نظام الحكم العتيق ،بحسب كتب المؤرخين ،ما كان كما ينبغي مثاليا وفق ما جاء في كتب األحكام ،وكما تعود عموم المسلمين والمغاربة من بينهم على توهمه وعلى عشق توهمه ،فيحن بعضهم إلعادة أنتاجه ولو بالعنف ،معتقدا أنه كان بالفعل مثاليا ومليئا كله باألمجاد. وفي ذلك سبب وجيه وكاف مرة أخرى لتفادي تلك المخاطر بتدريس تاريخ البالد كما هو في كتب اإلخباريين والمؤرخين المسلمين القدماء .وفقط هكذا تتمكن األجيال الحالية والمقبلة من تقييم وتقدير النظام السياسي الحديث بالشكل الصحيح مقارنة مع الضعف والنقائص المتأصلة في النظام القديم ،والتي سمحت بكل تلك التجاوزات المؤسفة في جميع المجاالت. وينبغي إقناع نفس األجيال بأن النظام السياسي الحديث والقوي ما بعد االستعمار ليس من صنع المستعمر كما قد تتوهم ذلك ،فتعتز بها ويفتخر .وخير دليل على ذلك العديد من المستعمرات السابقة بإفريقيا وبغيرها والتي تم تحريرها منذ فترة طويلة وال تزال مهترئة ومتهلهلة كما كانت غداة االستقالل. على عكسها كان المغاربة ،وال سيما النخب المستنيرة من بينهم ،يعرفون جيدا مزايا الدولة الحديثة في مقابل مساوئ نظام الحكم العتيق الذي كانوا يعانون منها .وإذا وجدت الحماية نفسها ملزمة بالتنازل للمغاربة عن ميزة إرساء أسس الدولة الحديثة بقوتها مقابل تعليق المقاومة لفترة من الزمن التي أسموها سياسة التهدئة ،pacification فلم تكن لديها أبدا النية في تكوين الجيل المغربي الصاعد القادر على إستكمال بنائها وتنميتها وحسن تسييرها وتدبيرها .لهذا انتهجت سياسة تمييزية في التعليم لضمان بقاء هيمنتها إلى األبد .تعليم جيد وممتاز خاص بالجيل الصاعد من أبناء المستعمرين ،في مقابل تكوين مهني خالص وخاص بأبناء المغاربة حتى يشكلوا من دون غيرهم اليد العاملة التي تخدمهم في الضيعات الفالحية وفي المناجم والمعامل. 3 لكن تلك السياسة لم تحسب الحساب ألنفة وعزة المغاربة بأنفسهم ،وخاصة أنفة نخبهم البرجوازية المستنيرة والنخب العالمة التي ورثت من األسالف تراثًا ثقافيًا المعًا وراس ًخا وعريقا ما كان يتطلع سوى إلثرائه بالمزيد من العلوم والمعارف العصرية والجديدة من أجل تعليم وتكوين وتثقيف األجيال الصاعدة بالشكل الصحيح .أجيال مستعدة لرفع التحدي المتمثل في القدرة على تقلد زمام مغرب ما بعد االستعمار القوي والحديث .وهذا ما حصل بالضبط وبالفعل وتم انجازه بشكل جيد ،على الرغم من أنف المستعمر. معنى ذلك أن المغرب الحديث هو باألحرى ثمرة العبقرية المغربية .بعد أقل من عشرين سنة على استقالل البالد استكمل وحدة ترابه باسترجاع صحرائه وحماها وقفز بها من وضع مزري تشهد عليه الصور حينها إلى إقليم يسر الناظرين وساكنته من الداخل ويبهر الزائرين من الخارج .وفي الوقت الحاضر ،الكوادر من ذوي الكفاءة العالية ومن كال الجنسين الذين ال يزالون وسيظلون يطورون البالد بشكل مذهل وفي كل المجاالت هم جميعهم مغاربة مائة بالمائة .وال يزال وسيظل التعليم المغربي من صنع المغاربة يتطور ويزود البالد بما تحتاجه من كفاءات في كل الميادين. ومع ذلك ،ينبغي أن نفخر ونعتز بما كان في ماضي أسالفنا من أمجاد .لكن من دون أن تكون تلك األمجاد مثل الشجرة التي تخفي الغابة .ال ينبغي لها أن تخفي عنا إخفاقات النظام القديم الذي عانى من مآسيه أسالفنا وكانوا بال شك وكما تقدم متلهفين على تغييره بما هو أفضل والذي لمسوه في حياة األجانب من بينهم وفي بلدانهم األصلية بالنسبة لمن زاروها ،حتى وجد من بينهم من كانوا يتهافتون على الحصول على الحماية القنصلية من أجل االستفادة من مزاياها والتخلص بقدر اإلمكان من متاعبهم مع مثالب ذلك النظام العتيق الذي كان يخنقهم .كل هذا حتى ال نجد مرة أخرى و أخرى من بيننا متطرفين يطمحون ،بسبب جهلهم بمساوئ النظام البالي البائد ،إلى إعادة إنتاجه باسم اإلسالم ،وهم يجهلون أنه كان في الواقع بعيدا إلى حد ما عن قيمه ومقاصده النبيلة. 4