Telechargé par Mustapha HMIMOU المصطفى حميمو

المصطفى حميمو : قصة الحرية في السيرة النبوية

publicité
‫قصة الحرية في السيرة النبوية‬
‫المصطفى حميمو‬
‫ظلت الحرية في العالم العربي وحتى عهد قريب قضية النخب السياسية والعالمة فقط‪ .‬وفجأة مع مطلع ‪2011‬‬
‫اتضح أنها قد أصبحت قضية أمة‪ .‬تلك هي الحرية التي كانت مطلب ثوار ما عرف بالربيع العربي‪ ،‬بما فيهم شبيبة‬
‫وأعضاء الحركات اإلسالمية‪ .‬الحرية التي كان مجرد التلفظ بها سرعان ما يثير حساسية لدى عموم المسلمين لما‬
‫تتشابه في أذهانهم مع اإلباحية األخالقية السائدة في الغرب‪ ،‬كما حصل مع المؤرخ الناصري رحمه هللا في كتاب‬
‫االستقصا‪ .‬تلك اإلباحية التي ظهر وبقوة في مونديال قطر ‪ ،2022‬أنه ال سبيل للتطبيع معها في مجتمعاتهم‪.‬‬
‫بخالف الحرية السياسية التي وجدنا من بينهم من أخذ يؤصل لها من الكتاب والسنة‪ .‬فصرنا نقرأ مثال هنا وهناك‬
‫"مفهوم الحرية في اإلسالم"‪" ،‬الحرية في القرآن الكريم"‪" ،‬الحرية في عهد الفاروق" الخ‪ ...‬األمر الذي يبشر بكل خير‪.‬‬
‫وللحرية قصص في تاريخ البشرية منذ القدم‪ ،‬مثل قصتها في تاريخ مدن اليونان العريقة وفي تاريخ روما العتيقة‪ .‬فهل‬
‫لها من قصة في تاريخ المسلمين ؟ بالتأكيد نعم‪ ،‬وال سيما بالنسبة لكل من أمعن النظر والتأمل في سيرة الرسول الكريم‬
‫من بعد أن يكون قد تتبع قصصها في تاريخ الشعوب الحرة‪ .‬فما هي قصتها في سيرته صلى هللا عليه وسلم ؟‬
‫كل الرسل جاؤوا بنفس قيم الحرية التي من دونها يستحيل قيام الناس بالقسط كغاية الغايات من إرسالهم‪ .‬يقول‬
‫وم النَّاس ِبال ِقس ِط" (الحديد ‪ .)12‬وقيام الناس بالقسط‬
‫سلنَا رسلَنَا ِبال َبيِنَا ِ‬
‫ت َوأَنزَ لنَا َم َعهم ال ِكت َ‬
‫تعالي‪" :‬لقَد أَر َ‬
‫َاب َوال ِميزَ انَ ِليَق َ‬
‫ال يتحقق سوى في ظل دولة الحق والقانون‪ .‬تلك الدولة التي تتطلب بدورها أن يكون الشعب حرا معافى من داء‬
‫الوضاعة‪ ،‬أي من داء الخضوع المذل لكرامة اإلنسان‪ .‬فال يخضع الشعب فيها بالمطلق إال هلل وللقوانين التي سنها هو‬
‫بنفسه مباشرة أو بصفة غير مباشرة لتحقيق العيش المشترك والحر فيما بين أفراده‪ .‬الشعب الحر له كامل السيادة في‬
‫وطنه وهو مصدر كل السلطات التي يفوض ممارستها لمن يثق فيهم باختيار حر منه لوالية محددة وبشروطه‪ .‬فيراقبهم‬
‫ويحاسبهم على تصرفاتهم فيها‪ .‬ثم يجدد ثقته فيهم أو يستبدلهم بغيرهم في نهاية كل والية‪ .‬وتلك هي طاعة أولي األمر‬
‫الواردة في القرآن الكريم‪" .‬أولي األمر منهم" يعني الذين اختارهم الشعب من بين أفراده وفوض لهم ممارسة سلطاته‬
‫بشروطه‪ ،‬كصاحب شركة ما لما يفوض تدبيرها لمن يثق فيه وبشروطه‪ .‬ومعنى شهادة أن ال إله إال هللا‪ ،‬أن الشعب‬
‫الحر سيد في وطنه‪ ،‬وليس لمخلوق الحق في االستبداد به‪ .‬هكذا‪ ،‬مثل موسى وعيسى وغيرهما عليهم السالم‪ ،‬كان محمد‬
‫صلى هللا عليه وسلم خاتم رسل الحرية‪ .‬الحرية التي تعتق اإلنسان من داء الوضاعة‪ .‬وهي نفس الحرية التي صارت‬
‫تطالب بها اليوم العديد من الشعوب العربية والتي سبق أن تحققت للعديد من الشعوب عبر العصور‪ .‬وهي نفس الحرية‬
‫التي تحققت وعاشها شعب المدينة المنورة من حوله صلى هللا عليه وسلم‪ .‬فكيف حصل ذلك بالمدينة ؟ لكن كيف كان‬
‫البدء بمكة ؟‬
‫مكة كدولة في حجم مدينة ‪ ،cité-Etat‬كانت‪ ،‬على صغر حجمها‪ ،‬تتشكل كباقي الدول من أرض وشعب وحكم‪.‬‬
‫والحكم فيها كان من نصيب طبقة األشراف من دون غيرهم‪ ،‬كما كان عليه الحال بروما العتيقة حتى بدايات عهد‬
‫الجمهورية‪ .‬ذلك هو حكم األخيار أو الحكم األرستقراطي بلغة العصر‪ ،‬حيث لم يكن للعوام ‪ la plèbe‬فيه حق‬
‫المواطنة‪ .‬فكانوا مجرد رعايا‪ ،‬وكانوا وضيعين بخضوعهم المذل للمستبدين بهم‪ .‬وكان مقره بدار الندوة كنادي سياسي‬
‫واجتماعي خاص بعلية القوم‪ .‬وذلك في مقابل المسجد الحقا بالمدينة‪ ،‬الذي كان مفتوحا في وجه كافة فئات شعبها‪ ،‬على‬
‫غرار اآلڭورا ‪ l'agora‬بأثينا اليونانية‪ ،‬والمنتدى ‪ le forum‬بروما‪.‬‬
‫فالحرية في مكة كانت من نصيب أسر األشراف من دون غيرهم‪ .‬والحرية التي جاء بها اإلسالم ومع مختلف‬
‫الرسل تعني كون السيادة للشعب بالتساوي بين كل فئاته وأفراده كمواطنين أحرار‪ ،‬بغض النظر عن كونهم فقراء أو‬
‫أغنياء‪ ،‬وعن كونهم ضعفاء أو أقوياء‪ .‬لكل منهم نفس الحق في التشريع‪ ،‬إما مباشرة في حال دولة في حجم مدينة مثل‬
‫‪1‬‬
‫مكة وروما العتيقة‪ ،‬أو عن طريق مجلس تشريعي منتخب يمثل بقية الشعب‪ ،‬لما تكون الدولة شاسعة األطراف‪.‬‬
‫والحرية بهذا المعنى السياسي والديني هي التي تعني حكم الشعب نفسه بنفسه‪ .‬وهو حق طبيعي لكل بني البشر الذين ال‬
‫يمكنهم من دونه أن يقوموا بالقسط ويعيشوا كما ينبغي العيش الكريم في دولة الحق والقانون‪.‬‬
‫فلم يعترض نبالء قريش على كون هللا ربا يخلق ويرزق ويحيي ويميت وهو على كل شيء قدير‪ .‬وحسبنا في‬
‫للا " (الزمر ‪ .) 19‬وكانوا يتقربون إليه عن طريق‬
‫س َم َاوا ِ‬
‫سألَت َهم َّمن َخلَقَ ال َّ‬
‫ض لَ َيقول َّن َ‬
‫ذلك قوله تعالى‪َ " :‬ولَئِن َ‬
‫ت َواألر َ‬
‫األصنام كما ال يزال ذلك شائعا بين بعض المسلمين لما يزعمون أنهم يتقربون إليه بالتمسح بقبور الصالحين وبغيرها‬
‫مما خلق‪ .‬فما كان عند قريش من إشكال في التخلي عن عبادة األصنام‪ ،‬وال في إقامة الصالة وال في الصوم وال في أداء‬
‫الزكاة وال في الحج الذي كانوا يقومون به كميراث من الحنيفية اإلبراهيمية‪.‬‬
‫الذي اعترضوا عليه هو كون هللا إلها ينهى ويأمر‪ ،‬وليس مجرد رب يخلق ويرزق‪ .‬إله يشرع لعموم الناس بمكة‬
‫بدال من التشريع المفروض عليهم من دون رضاهم بدار الندوة‪ .‬إله يأمرهم بالعدل واإلحسان وينهاهم عن الفحشاء‬
‫وم النَّاس ِبال ِقس ِط "‪ .‬وكلمة "الناس" كانت‬
‫سلنَا رسلَنَا ِبالبَ ِينَا ِ‬
‫ت َوأَنزَ لنَا َم َعهم ال ِكت َ‬
‫والمنكر‪ ،‬فيقول‪ " :‬لَقَد أَر َ‬
‫َاب َوال ِميزَ انَ ِل َيق َ‬
‫تعني في آذان نبالء قريش‪ ،‬وكما ينبغي‪ ،‬كل أفراد شعب مكة من دون تمييز‪ .‬وقيام الناس بالقسط يتطلب حتما أن يكونوا‬
‫كلهم أحرار أصحاب السيادة في وطنهم‪ .‬إله يفرض على النبالء المساواة في الحقوق السياسية بين كل أفراد شعب مكة‪،‬‬
‫كما تحقق ذلك الحقا بالمدينة بالنسبة لكل أفراد شعبها بما فيهم اليهود الذين احتفظوا في أحيائهم بكامل حريتهم السياسية‬
‫وبدينهم وبتشريعهم فيما بينهم‪ ،‬مع الحرية عالوة على كل ذلك في ولوج المسجد كمنتدى ومجلس بلدي لكل أفراد‬
‫الشعب بقصد تداول الشأن العام الذي كان من شأنهم جميعا‪ ،‬اللهم من اختار االبتعاد عنه بمحض إرادته‪ .‬من أجل ذلك‬
‫حارب أشراف قريش بمكة العقيدة الجديدة التي تبتغي الحرية الطبيعية والشرعية‪ ،‬المسوية بين كل أهلها في الواجبات‬
‫وفي الحقوق‪ .‬شعب مواطنين أحرار من دون سادة ومسودين وال عوام وال عبيد وال غوغاء وال دهماء‪.‬‬
‫فتجمع من حوله صلى هللا عليه وسلم نفر من المؤمنين الذين تعافوا من وضاعتهم وصاروا يطالبون بالمساواة في‬
‫الحقوق والواجبات‪ .‬شكل ذلك ثورة سياسية واجهها نبالء قريش بالرفض وبالعنف الشديد‪ .‬فزعموا أن الرسول الكريم‬
‫كاذب مفتري على هللا‪ ،‬وأنه ليس هناك من بعث من بعد الموت يخوفهم به وال حساب وال جنة وال نار‪ .‬حتى قال أحدهم‪:‬‬
‫"من يحيِي ا ل ِع َ‬
‫ِي إِ َّال َحيَاتنَا الدُّنيَا نَموت َونَحيَا َو َما يه ِلكنَا إِ َّال الدَّهر"‬
‫ظ َ‬
‫ِي َر ِميم " (يس ‪ ،)79‬ثم قالوا ‪َ " :‬ما ه َ‬
‫ام َوه َ‬
‫(الجاثية ‪ .)14‬وقاوموه صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وانتهوا بالعزم على اغتياله واستئصال أتباعه من مكة‪.‬‬
‫فكان ال بد للفئات المستضعفة والمحرومة بقوة السالح واالضطهاد من التمتع بحقها الطبيعي في حرياتها لما‬
‫أصبحت تعي معناها من بعد ما كانت تجهلها‪ .‬كان ال بد لها من مأوى تلجأ إليه وتمارسها فيه‪ .‬كان عليها التحرر من‬
‫االستضعاف الذي يطالها‪ ،‬حتى ال يقال في حقها‪" :‬إِ َّن الَّذِينَ ت ََوفَّاهم ال َم َالئِ َكة َ‬
‫يم كنتم قَالوا كنَّا‬
‫ظا ِل ِمي أَنف ِس ِهم قَالوا فِ َ‬
‫اجروا فِي َها" (النساء ‪.)17‬‬
‫مست َضعَفِينَ فِي األر ِ‬
‫ض‪ .‬قَالوا أَلَم ت َكن األ َرض َوا ِسعَة فَت َه ِ‬
‫لكن كما ينبغي له‪ ،‬ما فرض الرسول الكريم نفسه على أي قوم آخر‪ ،‬وما كان ليؤمر بذلك حتى في حال ما كان‬
‫قويا ويستطيع‪ .‬وذلك صونا لمبدأ الحرية دائما‪ .‬بل صار يعرض ما لديه من قيم ومبادئ سامية على مختلف القبائل في‬
‫كل موسم حج‪ .‬قبِل بدعوته بنو شيبان من العراق‪ ،‬لكنهم ما كانوا بدورهم أحرار‪ ،‬إذ كانوا تحت نير سيادة الفرس‪.‬‬
‫فاستمر في دعوته إلى حين وافق وفد المدينة على عرضه في ما سمى ببيعة العقبة األولى‪ .‬لكن بمقتضى نفس مبدأ‬
‫الحرية الذي جاء به‪ ،‬كان ال بد من رضا وموافقة على األقل غالبية أفراد شعب المدينة‪ .‬وفي ظرف سنة من التعريف‬
‫بعرضه بالمدينة جاءه منها في موسم الحج الالحق وفد أكبر من األول ومفوض من شعب المدينة ليخبره بقبول غالبيته‬
‫به كإمام ورسول‪ ،‬وبمن كان معه من المستضعفين الفارين بدينهم وبحريتهم من استبداد واضطهاد أشراف قريش‪ .‬وتلك‬
‫كانت بيعة العقبة الثانية‪.‬‬
‫فصار فيها من سنته صلى هللا عليه وسلم أن الواليات ال تتم إال بالموافقة الحرة من غالبية أفراد الشعب‪ .‬فمن‬
‫يكون أعلى منه مقاما حتى يتولى األمر من بعده من دون تفويض حر من غالبية أفراد الشعب وبشروطها ؟ لكنها سنة‬
‫جليلة غمرتها الصراعات السياسية من بعد عهد الخلفاء الراشدين على االستبداد بالشعوب التي تفشى وساد فيها داء‬
‫الوضاعة من جديد‪ ،‬وما عادت تعرف ال طعم وال رائحة لنعمة الحرية التي جاءها بها اإلسالم‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫وقد واله صلى هللا عليه وسلم على نفسه شعب المدينة الحر كإمام وكرسول‪ ،‬مع علمه بأن الرسول الكريم يأتيهم‬
‫بتشريع من رب العالمين‪ .‬بذلك يكونون قد قبلوا حتى باهلل إلها مشرعا‪ ،‬وبإرادتهم الحرة‪ .‬فصار من سنته أيضا أن‬
‫ممارسة السلطة التشريعية ال تتم إال باإلرادة الحرة من غالبية أفراد الشعب‪ .‬فمن يكون أعلى مقاما من هللا تعالى حتى‬
‫ينتصب مشرعا من بعد انقطاع الوحي من دون الرضا الحر من الشعب ؟ ومن هنا ستبدأ مرحلة قصة الحرية بالمدينة‪،‬‬
‫من بعد مرحلة قصتها األولى بمكة‪ .‬فماذا عن تتمتها ؟‬
‫قدوم المهاجرين ثم الرسول الكريم من بعدهم‪ ،‬كان بموجب عقد بيعة العقبة الثانية وبرضا من غالبية شعب‬
‫المدينة‪ .‬وكان في ذلك صون لحريتهم وتأكيد عليها كقيمة من أهم القيم التي جاء بها اإلسالم مع كل الرسل‪ .‬وأول عمل‬
‫تم القيام به هو بناء المسجد‪ ،‬ليس كمصلى فحسب‪ ،‬بل وباألساس كمنتدى اجتماعي وكمقر للمجلس البلدي الذي يجتمع‬
‫فيه كل من أراد من شعب المدينة للتداول في شؤونها العامة‪ .‬فكان مفتوحا للصغار والكبار والذكور واإلناث‪ ،‬مسلمين‬
‫وغير مسلمين‪ ،‬كي يتربوا فيه علي التشبع بالحرية‪ .‬بلغت فيه حرية التعبير حد رفع األصوات على صوت اإلمام صلى‬
‫هللا عليه وسلم الذي كان يستحيى من أصحابها حتى ال يظهر بمظهر المستبد بهم‪ .‬فنزل القرآن الكريم ينهى عن ذلك‪،‬‬
‫ضكم ِل َبعض أَن‬
‫صو ِ‬
‫ت النَّ ِبي َوال ت َج َهروا لَه ِبالقَو ِل َك َجه ِر َبع ِ‬
‫بقوله تعالى‪َ " :‬يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنوا ال ت َرفَعوا أَص َوات َكم فَوقَ َ‬
‫ت َح َب َ‬
‫ط أَع َمالكم َوأَنتم ال ت َشعرونَ " (الحجرات ‪)2‬‬
‫فمن سنته صلى هللا عليه وسلم إنشاء مجلس بلدي في كل مدينة وقرية يمارس فيه شعبها الحر كل سلطات‬
‫السيادة‪ .‬وليس بالضرورة أن يكون مقره هو المسجد‪ .‬كونه مسجدا في عهده صلى هللا عليه وسلم راجع لكونه إماما‬
‫رسوال‪ .‬بتدخل الوحي في الحكم كان نظاما تيوقراطيا وديمقراطيا‪ .‬أما من بعده صلى هللا عليه وسلم وبانقطاع الوحي‬
‫يبقى الحكم مدنيا ديمقراطيا‪ .‬فليس من حق أحد أن ينتخب باسم الدين وال أن يتولى الحكم باسمه‪ .‬تلك خاصية الرسل‪ .‬فال‬
‫يتخذ الحكم باسم الدين ذريعة لالستبداد بالشعوب وتحويلها إلى شعوب وضيعة من بعد ما كانت حرة‪ .‬وذلك كان موقف‬
‫البروتستانت الطهرانيين بشمال أمريكا‪ ،‬وقبلهم بهولندا وبسويسرا وانجلترا‪.‬‬
‫وثاني عمل كسنة يقتضى بها من بعده صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬كان هو تحريره لوثيقة المدينة كدستور‪ .‬كانت الوثيقة‬
‫دستورا خاصا بعهده كإمام ورسول يوحى إليه‪ .‬وعلى أساسه ظل شعبها يفرق بين ما هو وحي فيستسلم له‪ ،‬وبين ما كان‬
‫من تدبيره كإمام مفوض للحكم‪ ،‬فكان يراجعه فيه متى ما اقتضى الحال ذلك‪ .‬ومنه على سبيل المثال‪ ،‬تدخل الخباب بن‬
‫المنذر كجندي بسيط بخصوص موقع المسلمين بمعركة بدر التي خاضها صلى هللا عليه وسلم مع المهاجرين أصحاب‬
‫الحق المبتغى من اعتراض قوافل قريش من دون األنصار‪ .‬وكان منه أيضا استشارة السعدين من األنصار أصحاب‬
‫الحق في المدينة من دون المهاجرين‪ ،‬في قضية اقتراح صلح مع غطفان على ثلث ثمرها كي تنسحب من الحصار في‬
‫غزوة األحزاب‪ .‬ومنه أيضا صلح الحديبية الذي تبين من بعد ذلك أن أمره كان من وحي هللا‪ .‬وقد جاءه صلى هللا عليه‬
‫وسلم األمر من هللا تعالى باستشارة شعب المدينة في كل أمورها العامة‪ ،‬وبأال يتخذ أي قرار إال من بعد استشارته‪ ،‬فقال‬
‫علَى هللا" (آل عمران ‪ .)159‬وتأكيدا لمبدأ الحرية دائما‪ ،‬نزل قوله‬
‫عزَ متَ فَت ََو َّكل َ‬
‫تعالى‪َ " :‬وشَا ِورهم فِي األَم ِر فَإِذَا َ‬
‫ور ى بَينَهم" (الشورى ‪ .)19‬واألمر يعني الشأن العام‪ ،‬فمنه كلمة أمير وكلمة إمارة‪ .‬والضمير "هم"‬
‫تعالى‪َ " :‬وأَمرهم ش َ‬
‫في اآلية الكريمة‪ ،‬يستغرق كل أفراد شعب المدينة كمواطنين أحرار‪ ،‬كي يشارك ويساهم كل من أراد منهم بنصيبه‬
‫الطبيعي في االستشارة في تدبير الشأن العام‪ .‬ألنه ليس من بين الشعب الحر ال أشراف وال عوام وال غوغاء وال دهماء‪.‬‬
‫ذلك شأن الشعوب الوضيعة فقط‪.‬‬
‫كل ذلك وغيره كثير‪ ،‬يدل على أن شعب المدينة عاش حرا في عهده صلى هللا عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين‬
‫من بعده‪ ،‬وتمتع بكل من الحرية الدينية والحرية السياسية‪ ،‬مع القبول والتسليم الحر دائما بتدخل الوحي في تدبير بعض‬
‫سلم به عن إيمان‬
‫شؤونهم الخاصة والعامة‪ ،‬إيمانا ويقينا بأنه وحي من رب العالمين‪ ،‬وليس من تدبير اإلمام‪ .‬والوحي الم َ‬
‫كان يحكم كال من اإلمام والشعب الحر معا‪ .‬بذلك ظل الشأن العام شأن كل فرد بالمدينة كمواطن حر‪ ،‬ويتم تداوله‬
‫بالمسجد كمجلس بلدي أو برلمان ال يستثنى من ولوجه أحد من نساء ورجال‪ ،‬وحتى من الصغار ومن اليهود‪ ،‬كي‬
‫يمارس فيه حقه الطبيعي في الحرية كسيد حر بموطنه‪.‬‬
‫ومن بعد التمكين جاء دور تحرير مكة من استبداد أشرافها‪ .‬وبمنظار الحرية كما يمكن تتبع قصصها في تاريخ‬
‫البشرية‪ ،‬فكلمة "الفتح" في القرآن الكريم تعني تحرير المستضعفين من استبداد وطغيان المستبدين‪ .‬أما غزو قوم حر أو‬
‫‪3‬‬
‫شعب وضيع ثم استضعافه واستعباده فهو‪ ،‬بمنظار مبدأ الحرية المقدس في اإلسالم‪ ،‬احتالل ظالم وبغيظ‪ .‬ففرق إذا بين‬
‫الفتح واالحتالل الذي ما كان يجوز تعمد الخلط بينهما لتبرير هذا بذاك‪.‬‬
‫ولما تم تحرير مكة‪ ،‬تحررت معها قبائل باقي الجزيرة العربية‪ .‬فجاءت الوفود إلى المدينة مطمئنة على نفسها من‬
‫الخوف من قريش الذي كان يخنقها‪ .‬جاءت تستفتي وتسأل عن فحوى الرسالة المحمدية‪ .‬وما استدعاها أحد وال أجبرها‬
‫أحد على اإليمان بها‪ .‬وبقيت من بعد ذلك مستقلة وحرة في اختياراتها‪ .‬وحسبنا في ذلك وفد اليمامة الذي ما أن وصل‬
‫إلى موطنه حتى تنكر لما آمن به‪ .‬ومع ذلك ظل شعبها مستقال وحرا‪ .‬واآليات القرآنية التي تؤكد كما يجب على حرية‬
‫الرشد ِمنَ‬
‫ِين قَد ت َ َبيَّنَ ُّ‬
‫المعتقد عديدة وبصيغ ال تقبل النسخ بأي حال من األحوال‪ .‬منها قوله تعالى‪" :‬ال ِإك َراهَ فِي الد ِ‬
‫الغَي ِ" [البقرة‪ ]256:‬و قوله سبحانه‪َ " :‬وق ِل ال َح ُّق ِمن َّر ِبكم فَ َمن شَا َء فَليؤ ِمن َو َمن شَا َء فَل َيكفر" (الكهف ‪.)29 -‬‬
‫سا َبهم" (الغاشية ‪ .)26‬فماذا‬
‫والمحاسبة على اإليمان والكفر من خصوصياته سبحانه إذ قال " ِإ َّن ِإلَينَا ِإ َيا َبهم ث َّم ِإ َّن َ‬
‫علَينَا ِح َ‬
‫عن االلتزام بهذا المبدأ النبيل والمقدس من بعده صلى هللا عليه وسلم ؟‬
‫قال الراهب ميشون ‪ Michon‬في كتابه ‪": VOYAGE RELIGIEUX EN ORIENT‬إنه ألمر محزن بالنسبة لألمم‬
‫المسيحية أن التسامح الديني‪ ،‬وهو مبدأ اإلحسان العظيم من الناس إلى الناس‪ ،‬قد تم تعليمه لها من قبل المسلمين‪ .‬فمن‬
‫تعاليم الدين احترام معتقدات اآلخرين وعدم استخدام العنف لفرض أي معتقد‪ .".‬وهو يشير هنا إلى محاكم التفتيش‪ .‬وقال‬
‫روبرتسن ‪ Robertson‬عن ‪ Gustave Le bon‬في كتابه ‪" : LA CIVILSATION DES ARABES‬المسلمون هم المتحمسون‬
‫الوحيدون الذين جمعوا بين روح التسامح وحماسة التبشير‪ .‬مع حملهم للسالح من أجل نشر عقيدة نبيهم‪ ،‬سمحوا لمن لم‬
‫يرغبوا فيها أن يظلوا متمسكين معتقداتهم"‪ .‬وأضاف ڭوستاف لو بون قائال ‪" :‬لما وصل الخليفة عمر إلى مدينة القدس‬
‫أظهر أكبر قدر من التسامح تجاه سكانها‪ ،‬وترك لهم دينهم وعاداتهم وممتلكاتهم‪ ،‬وفرض عليهم فقط أداء جزية بسيطة"‪.‬‬
‫فحرية المعتقد في اإلسالم مع الحق في الحرية السياسية صنوان ال يفترقان‪ .‬لكن حصل التفريط في الثانية فعادت‬
‫الوضاعة لتأخذ مكان عشق الحرية في النفوس‪ .‬ومن شأن قراءة متجددة للقرآن الكريم وللسيرة الشريفة على ضوء‬
‫تاريخ الشعوب الحرة أن تعيد األمور إلى نصابها‪.‬‬
‫‪4‬‬
Téléchargement