قصة الحرية في السيرة النبوية المصطفى حميمو ظلت الحرية في العالم العربي وحتى عهد قريب قضية النخب السياسية والعالمة فقط .وفجأة مع مطلع 2011 اتضح أنها قد أصبحت قضية أمة .تلك هي الحرية التي كانت مطلب ثوار ما عرف بالربيع العربي ،بما فيهم شبيبة وأعضاء الحركات اإلسالمية .الحرية التي كان مجرد التلفظ بها سرعان ما يثير حساسية لدى عموم المسلمين لما تتشابه في أذهانهم مع اإلباحية األخالقية السائدة في الغرب ،كما حصل مع المؤرخ الناصري رحمه هللا في كتاب االستقصا .تلك اإلباحية التي ظهر وبقوة في مونديال قطر ،2022أنه ال سبيل للتطبيع معها في مجتمعاتهم. بخالف الحرية السياسية التي وجدنا من بينهم من أخذ يؤصل لها من الكتاب والسنة .فصرنا نقرأ مثال هنا وهناك "مفهوم الحرية في اإلسالم"" ،الحرية في القرآن الكريم"" ،الحرية في عهد الفاروق" الخ ...األمر الذي يبشر بكل خير. وللحرية قصص في تاريخ البشرية منذ القدم ،مثل قصتها في تاريخ مدن اليونان العريقة وفي تاريخ روما العتيقة .فهل لها من قصة في تاريخ المسلمين ؟ بالتأكيد نعم ،وال سيما بالنسبة لكل من أمعن النظر والتأمل في سيرة الرسول الكريم من بعد أن يكون قد تتبع قصصها في تاريخ الشعوب الحرة .فما هي قصتها في سيرته صلى هللا عليه وسلم ؟ كل الرسل جاؤوا بنفس قيم الحرية التي من دونها يستحيل قيام الناس بالقسط كغاية الغايات من إرسالهم .يقول وم النَّاس ِبال ِقس ِط" (الحديد .)12وقيام الناس بالقسط سلنَا رسلَنَا ِبال َبيِنَا ِ ت َوأَنزَ لنَا َم َعهم ال ِكت َ تعالي" :لقَد أَر َ َاب َوال ِميزَ انَ ِليَق َ ال يتحقق سوى في ظل دولة الحق والقانون .تلك الدولة التي تتطلب بدورها أن يكون الشعب حرا معافى من داء الوضاعة ،أي من داء الخضوع المذل لكرامة اإلنسان .فال يخضع الشعب فيها بالمطلق إال هلل وللقوانين التي سنها هو بنفسه مباشرة أو بصفة غير مباشرة لتحقيق العيش المشترك والحر فيما بين أفراده .الشعب الحر له كامل السيادة في وطنه وهو مصدر كل السلطات التي يفوض ممارستها لمن يثق فيهم باختيار حر منه لوالية محددة وبشروطه .فيراقبهم ويحاسبهم على تصرفاتهم فيها .ثم يجدد ثقته فيهم أو يستبدلهم بغيرهم في نهاية كل والية .وتلك هي طاعة أولي األمر الواردة في القرآن الكريم" .أولي األمر منهم" يعني الذين اختارهم الشعب من بين أفراده وفوض لهم ممارسة سلطاته بشروطه ،كصاحب شركة ما لما يفوض تدبيرها لمن يثق فيه وبشروطه .ومعنى شهادة أن ال إله إال هللا ،أن الشعب الحر سيد في وطنه ،وليس لمخلوق الحق في االستبداد به .هكذا ،مثل موسى وعيسى وغيرهما عليهم السالم ،كان محمد صلى هللا عليه وسلم خاتم رسل الحرية .الحرية التي تعتق اإلنسان من داء الوضاعة .وهي نفس الحرية التي صارت تطالب بها اليوم العديد من الشعوب العربية والتي سبق أن تحققت للعديد من الشعوب عبر العصور .وهي نفس الحرية التي تحققت وعاشها شعب المدينة المنورة من حوله صلى هللا عليه وسلم .فكيف حصل ذلك بالمدينة ؟ لكن كيف كان البدء بمكة ؟ مكة كدولة في حجم مدينة ،cité-Etatكانت ،على صغر حجمها ،تتشكل كباقي الدول من أرض وشعب وحكم. والحكم فيها كان من نصيب طبقة األشراف من دون غيرهم ،كما كان عليه الحال بروما العتيقة حتى بدايات عهد الجمهورية .ذلك هو حكم األخيار أو الحكم األرستقراطي بلغة العصر ،حيث لم يكن للعوام la plèbeفيه حق المواطنة .فكانوا مجرد رعايا ،وكانوا وضيعين بخضوعهم المذل للمستبدين بهم .وكان مقره بدار الندوة كنادي سياسي واجتماعي خاص بعلية القوم .وذلك في مقابل المسجد الحقا بالمدينة ،الذي كان مفتوحا في وجه كافة فئات شعبها ،على غرار اآلڭورا l'agoraبأثينا اليونانية ،والمنتدى le forumبروما. فالحرية في مكة كانت من نصيب أسر األشراف من دون غيرهم .والحرية التي جاء بها اإلسالم ومع مختلف الرسل تعني كون السيادة للشعب بالتساوي بين كل فئاته وأفراده كمواطنين أحرار ،بغض النظر عن كونهم فقراء أو أغنياء ،وعن كونهم ضعفاء أو أقوياء .لكل منهم نفس الحق في التشريع ،إما مباشرة في حال دولة في حجم مدينة مثل 1 مكة وروما العتيقة ،أو عن طريق مجلس تشريعي منتخب يمثل بقية الشعب ،لما تكون الدولة شاسعة األطراف. والحرية بهذا المعنى السياسي والديني هي التي تعني حكم الشعب نفسه بنفسه .وهو حق طبيعي لكل بني البشر الذين ال يمكنهم من دونه أن يقوموا بالقسط ويعيشوا كما ينبغي العيش الكريم في دولة الحق والقانون. فلم يعترض نبالء قريش على كون هللا ربا يخلق ويرزق ويحيي ويميت وهو على كل شيء قدير .وحسبنا في للا " (الزمر .) 19وكانوا يتقربون إليه عن طريق س َم َاوا ِ سألَت َهم َّمن َخلَقَ ال َّ ض لَ َيقول َّن َ ذلك قوله تعالىَ " :ولَئِن َ ت َواألر َ األصنام كما ال يزال ذلك شائعا بين بعض المسلمين لما يزعمون أنهم يتقربون إليه بالتمسح بقبور الصالحين وبغيرها مما خلق .فما كان عند قريش من إشكال في التخلي عن عبادة األصنام ،وال في إقامة الصالة وال في الصوم وال في أداء الزكاة وال في الحج الذي كانوا يقومون به كميراث من الحنيفية اإلبراهيمية. الذي اعترضوا عليه هو كون هللا إلها ينهى ويأمر ،وليس مجرد رب يخلق ويرزق .إله يشرع لعموم الناس بمكة بدال من التشريع المفروض عليهم من دون رضاهم بدار الندوة .إله يأمرهم بالعدل واإلحسان وينهاهم عن الفحشاء وم النَّاس ِبال ِقس ِط " .وكلمة "الناس" كانت سلنَا رسلَنَا ِبالبَ ِينَا ِ ت َوأَنزَ لنَا َم َعهم ال ِكت َ والمنكر ،فيقول " :لَقَد أَر َ َاب َوال ِميزَ انَ ِل َيق َ تعني في آذان نبالء قريش ،وكما ينبغي ،كل أفراد شعب مكة من دون تمييز .وقيام الناس بالقسط يتطلب حتما أن يكونوا كلهم أحرار أصحاب السيادة في وطنهم .إله يفرض على النبالء المساواة في الحقوق السياسية بين كل أفراد شعب مكة، كما تحقق ذلك الحقا بالمدينة بالنسبة لكل أفراد شعبها بما فيهم اليهود الذين احتفظوا في أحيائهم بكامل حريتهم السياسية وبدينهم وبتشريعهم فيما بينهم ،مع الحرية عالوة على كل ذلك في ولوج المسجد كمنتدى ومجلس بلدي لكل أفراد الشعب بقصد تداول الشأن العام الذي كان من شأنهم جميعا ،اللهم من اختار االبتعاد عنه بمحض إرادته .من أجل ذلك حارب أشراف قريش بمكة العقيدة الجديدة التي تبتغي الحرية الطبيعية والشرعية ،المسوية بين كل أهلها في الواجبات وفي الحقوق .شعب مواطنين أحرار من دون سادة ومسودين وال عوام وال عبيد وال غوغاء وال دهماء. فتجمع من حوله صلى هللا عليه وسلم نفر من المؤمنين الذين تعافوا من وضاعتهم وصاروا يطالبون بالمساواة في الحقوق والواجبات .شكل ذلك ثورة سياسية واجهها نبالء قريش بالرفض وبالعنف الشديد .فزعموا أن الرسول الكريم كاذب مفتري على هللا ،وأنه ليس هناك من بعث من بعد الموت يخوفهم به وال حساب وال جنة وال نار .حتى قال أحدهم: "من يحيِي ا ل ِع َ ِي إِ َّال َحيَاتنَا الدُّنيَا نَموت َونَحيَا َو َما يه ِلكنَا إِ َّال الدَّهر" ظ َ ِي َر ِميم " (يس ،)79ثم قالوا َ " :ما ه َ ام َوه َ (الجاثية .)14وقاوموه صلى هللا عليه وسلم ،وانتهوا بالعزم على اغتياله واستئصال أتباعه من مكة. فكان ال بد للفئات المستضعفة والمحرومة بقوة السالح واالضطهاد من التمتع بحقها الطبيعي في حرياتها لما أصبحت تعي معناها من بعد ما كانت تجهلها .كان ال بد لها من مأوى تلجأ إليه وتمارسها فيه .كان عليها التحرر من االستضعاف الذي يطالها ،حتى ال يقال في حقها" :إِ َّن الَّذِينَ ت ََوفَّاهم ال َم َالئِ َكة َ يم كنتم قَالوا كنَّا ظا ِل ِمي أَنف ِس ِهم قَالوا فِ َ اجروا فِي َها" (النساء .)17 مست َضعَفِينَ فِي األر ِ ض .قَالوا أَلَم ت َكن األ َرض َوا ِسعَة فَت َه ِ لكن كما ينبغي له ،ما فرض الرسول الكريم نفسه على أي قوم آخر ،وما كان ليؤمر بذلك حتى في حال ما كان قويا ويستطيع .وذلك صونا لمبدأ الحرية دائما .بل صار يعرض ما لديه من قيم ومبادئ سامية على مختلف القبائل في كل موسم حج .قبِل بدعوته بنو شيبان من العراق ،لكنهم ما كانوا بدورهم أحرار ،إذ كانوا تحت نير سيادة الفرس. فاستمر في دعوته إلى حين وافق وفد المدينة على عرضه في ما سمى ببيعة العقبة األولى .لكن بمقتضى نفس مبدأ الحرية الذي جاء به ،كان ال بد من رضا وموافقة على األقل غالبية أفراد شعب المدينة .وفي ظرف سنة من التعريف بعرضه بالمدينة جاءه منها في موسم الحج الالحق وفد أكبر من األول ومفوض من شعب المدينة ليخبره بقبول غالبيته به كإمام ورسول ،وبمن كان معه من المستضعفين الفارين بدينهم وبحريتهم من استبداد واضطهاد أشراف قريش .وتلك كانت بيعة العقبة الثانية. فصار فيها من سنته صلى هللا عليه وسلم أن الواليات ال تتم إال بالموافقة الحرة من غالبية أفراد الشعب .فمن يكون أعلى منه مقاما حتى يتولى األمر من بعده من دون تفويض حر من غالبية أفراد الشعب وبشروطها ؟ لكنها سنة جليلة غمرتها الصراعات السياسية من بعد عهد الخلفاء الراشدين على االستبداد بالشعوب التي تفشى وساد فيها داء الوضاعة من جديد ،وما عادت تعرف ال طعم وال رائحة لنعمة الحرية التي جاءها بها اإلسالم. 2 وقد واله صلى هللا عليه وسلم على نفسه شعب المدينة الحر كإمام وكرسول ،مع علمه بأن الرسول الكريم يأتيهم بتشريع من رب العالمين .بذلك يكونون قد قبلوا حتى باهلل إلها مشرعا ،وبإرادتهم الحرة .فصار من سنته أيضا أن ممارسة السلطة التشريعية ال تتم إال باإلرادة الحرة من غالبية أفراد الشعب .فمن يكون أعلى مقاما من هللا تعالى حتى ينتصب مشرعا من بعد انقطاع الوحي من دون الرضا الحر من الشعب ؟ ومن هنا ستبدأ مرحلة قصة الحرية بالمدينة، من بعد مرحلة قصتها األولى بمكة .فماذا عن تتمتها ؟ قدوم المهاجرين ثم الرسول الكريم من بعدهم ،كان بموجب عقد بيعة العقبة الثانية وبرضا من غالبية شعب المدينة .وكان في ذلك صون لحريتهم وتأكيد عليها كقيمة من أهم القيم التي جاء بها اإلسالم مع كل الرسل .وأول عمل تم القيام به هو بناء المسجد ،ليس كمصلى فحسب ،بل وباألساس كمنتدى اجتماعي وكمقر للمجلس البلدي الذي يجتمع فيه كل من أراد من شعب المدينة للتداول في شؤونها العامة .فكان مفتوحا للصغار والكبار والذكور واإلناث ،مسلمين وغير مسلمين ،كي يتربوا فيه علي التشبع بالحرية .بلغت فيه حرية التعبير حد رفع األصوات على صوت اإلمام صلى هللا عليه وسلم الذي كان يستحيى من أصحابها حتى ال يظهر بمظهر المستبد بهم .فنزل القرآن الكريم ينهى عن ذلك، ضكم ِل َبعض أَن صو ِ ت النَّ ِبي َوال ت َج َهروا لَه ِبالقَو ِل َك َجه ِر َبع ِ بقوله تعالىَ " :يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنوا ال ت َرفَعوا أَص َوات َكم فَوقَ َ ت َح َب َ ط أَع َمالكم َوأَنتم ال ت َشعرونَ " (الحجرات )2 فمن سنته صلى هللا عليه وسلم إنشاء مجلس بلدي في كل مدينة وقرية يمارس فيه شعبها الحر كل سلطات السيادة .وليس بالضرورة أن يكون مقره هو المسجد .كونه مسجدا في عهده صلى هللا عليه وسلم راجع لكونه إماما رسوال .بتدخل الوحي في الحكم كان نظاما تيوقراطيا وديمقراطيا .أما من بعده صلى هللا عليه وسلم وبانقطاع الوحي يبقى الحكم مدنيا ديمقراطيا .فليس من حق أحد أن ينتخب باسم الدين وال أن يتولى الحكم باسمه .تلك خاصية الرسل .فال يتخذ الحكم باسم الدين ذريعة لالستبداد بالشعوب وتحويلها إلى شعوب وضيعة من بعد ما كانت حرة .وذلك كان موقف البروتستانت الطهرانيين بشمال أمريكا ،وقبلهم بهولندا وبسويسرا وانجلترا. وثاني عمل كسنة يقتضى بها من بعده صلى هللا عليه وسلم ،كان هو تحريره لوثيقة المدينة كدستور .كانت الوثيقة دستورا خاصا بعهده كإمام ورسول يوحى إليه .وعلى أساسه ظل شعبها يفرق بين ما هو وحي فيستسلم له ،وبين ما كان من تدبيره كإمام مفوض للحكم ،فكان يراجعه فيه متى ما اقتضى الحال ذلك .ومنه على سبيل المثال ،تدخل الخباب بن المنذر كجندي بسيط بخصوص موقع المسلمين بمعركة بدر التي خاضها صلى هللا عليه وسلم مع المهاجرين أصحاب الحق المبتغى من اعتراض قوافل قريش من دون األنصار .وكان منه أيضا استشارة السعدين من األنصار أصحاب الحق في المدينة من دون المهاجرين ،في قضية اقتراح صلح مع غطفان على ثلث ثمرها كي تنسحب من الحصار في غزوة األحزاب .ومنه أيضا صلح الحديبية الذي تبين من بعد ذلك أن أمره كان من وحي هللا .وقد جاءه صلى هللا عليه وسلم األمر من هللا تعالى باستشارة شعب المدينة في كل أمورها العامة ،وبأال يتخذ أي قرار إال من بعد استشارته ،فقال علَى هللا" (آل عمران .)159وتأكيدا لمبدأ الحرية دائما ،نزل قوله عزَ متَ فَت ََو َّكل َ تعالىَ " :وشَا ِورهم فِي األَم ِر فَإِذَا َ ور ى بَينَهم" (الشورى .)19واألمر يعني الشأن العام ،فمنه كلمة أمير وكلمة إمارة .والضمير "هم" تعالىَ " :وأَمرهم ش َ في اآلية الكريمة ،يستغرق كل أفراد شعب المدينة كمواطنين أحرار ،كي يشارك ويساهم كل من أراد منهم بنصيبه الطبيعي في االستشارة في تدبير الشأن العام .ألنه ليس من بين الشعب الحر ال أشراف وال عوام وال غوغاء وال دهماء. ذلك شأن الشعوب الوضيعة فقط. كل ذلك وغيره كثير ،يدل على أن شعب المدينة عاش حرا في عهده صلى هللا عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين من بعده ،وتمتع بكل من الحرية الدينية والحرية السياسية ،مع القبول والتسليم الحر دائما بتدخل الوحي في تدبير بعض سلم به عن إيمان شؤونهم الخاصة والعامة ،إيمانا ويقينا بأنه وحي من رب العالمين ،وليس من تدبير اإلمام .والوحي الم َ كان يحكم كال من اإلمام والشعب الحر معا .بذلك ظل الشأن العام شأن كل فرد بالمدينة كمواطن حر ،ويتم تداوله بالمسجد كمجلس بلدي أو برلمان ال يستثنى من ولوجه أحد من نساء ورجال ،وحتى من الصغار ومن اليهود ،كي يمارس فيه حقه الطبيعي في الحرية كسيد حر بموطنه. ومن بعد التمكين جاء دور تحرير مكة من استبداد أشرافها .وبمنظار الحرية كما يمكن تتبع قصصها في تاريخ البشرية ،فكلمة "الفتح" في القرآن الكريم تعني تحرير المستضعفين من استبداد وطغيان المستبدين .أما غزو قوم حر أو 3 شعب وضيع ثم استضعافه واستعباده فهو ،بمنظار مبدأ الحرية المقدس في اإلسالم ،احتالل ظالم وبغيظ .ففرق إذا بين الفتح واالحتالل الذي ما كان يجوز تعمد الخلط بينهما لتبرير هذا بذاك. ولما تم تحرير مكة ،تحررت معها قبائل باقي الجزيرة العربية .فجاءت الوفود إلى المدينة مطمئنة على نفسها من الخوف من قريش الذي كان يخنقها .جاءت تستفتي وتسأل عن فحوى الرسالة المحمدية .وما استدعاها أحد وال أجبرها أحد على اإليمان بها .وبقيت من بعد ذلك مستقلة وحرة في اختياراتها .وحسبنا في ذلك وفد اليمامة الذي ما أن وصل إلى موطنه حتى تنكر لما آمن به .ومع ذلك ظل شعبها مستقال وحرا .واآليات القرآنية التي تؤكد كما يجب على حرية الرشد ِمنَ ِين قَد ت َ َبيَّنَ ُّ المعتقد عديدة وبصيغ ال تقبل النسخ بأي حال من األحوال .منها قوله تعالى" :ال ِإك َراهَ فِي الد ِ الغَي ِ" [البقرة ]256:و قوله سبحانهَ " :وق ِل ال َح ُّق ِمن َّر ِبكم فَ َمن شَا َء فَليؤ ِمن َو َمن شَا َء فَل َيكفر" (الكهف .)29 - سا َبهم" (الغاشية .)26فماذا والمحاسبة على اإليمان والكفر من خصوصياته سبحانه إذ قال " ِإ َّن ِإلَينَا ِإ َيا َبهم ث َّم ِإ َّن َ علَينَا ِح َ عن االلتزام بهذا المبدأ النبيل والمقدس من بعده صلى هللا عليه وسلم ؟ قال الراهب ميشون Michonفي كتابه ": VOYAGE RELIGIEUX EN ORIENTإنه ألمر محزن بالنسبة لألمم المسيحية أن التسامح الديني ،وهو مبدأ اإلحسان العظيم من الناس إلى الناس ،قد تم تعليمه لها من قبل المسلمين .فمن تعاليم الدين احترام معتقدات اآلخرين وعدم استخدام العنف لفرض أي معتقد .".وهو يشير هنا إلى محاكم التفتيش .وقال روبرتسن Robertsonعن Gustave Le bonفي كتابه " : LA CIVILSATION DES ARABESالمسلمون هم المتحمسون الوحيدون الذين جمعوا بين روح التسامح وحماسة التبشير .مع حملهم للسالح من أجل نشر عقيدة نبيهم ،سمحوا لمن لم يرغبوا فيها أن يظلوا متمسكين معتقداتهم" .وأضاف ڭوستاف لو بون قائال " :لما وصل الخليفة عمر إلى مدينة القدس أظهر أكبر قدر من التسامح تجاه سكانها ،وترك لهم دينهم وعاداتهم وممتلكاتهم ،وفرض عليهم فقط أداء جزية بسيطة". فحرية المعتقد في اإلسالم مع الحق في الحرية السياسية صنوان ال يفترقان .لكن حصل التفريط في الثانية فعادت الوضاعة لتأخذ مكان عشق الحرية في النفوس .ومن شأن قراءة متجددة للقرآن الكريم وللسيرة الشريفة على ضوء تاريخ الشعوب الحرة أن تعيد األمور إلى نصابها. 4