ستغرب من تاريخ المغرب الغريب ال ُم َ المصطفى حميمو في كتابه القيّم "مجمل تاريخ المغرب" ،وفي حديثه عن الدارسين الغربيين لتاريخ المغرب العربي يقول الدكتور عبد هللا العروي بالحرف " :إن االنتقال من الرومية إلى العروبة ومن النصرانية إلى اإلسالم يعتبر فضيحة في نظرهم ما بعدها فضيحة" .ثم علّق على ذلك بقوله " :يكون لدهشتهم وجه لو كانت نصرانية مغرب القرن السابع كنصرانية فرنسا قرن التاسع عشر ،ولو كان إسالمه آنذاك كإسالمه اليوم ،لكن ال شيء من هذا يوافق الواقع" .ويفسر اعتراضه على دهشتهم بقوله " :لو انتقل فعال المغرب من حضارة كحضارة روما في عهد اإلمبراطور أغسطس إلى مستوى يشبه ما كان عليه في القرن التاسع عشر ،لجاز أن يقال إنه اختار عن طواعية االرتداد من التمدن إلى البداوة .في حين أنه انتقل من حضارة رومانية هرمة منحطة إلى حضارة إسالمية فتية وقوية". وبالنظر لجالل قدر استاذنا ،قرأت هذه الفقرات عدة مراة مخافة سوء فهم المقصود منها .ومع ذلك ومع التمني من أن أكون مخطئا ،وجدته وكأنما يقول لو كانت نصرانية وحضارة روما في القرن السابع ،وقت فتح شمال إفريقيا ،كنصرانية وحضارة الغرب في القرن التاسع عشر ،لجاز أن نقول أن البربر ل ّما أسلموا واستعربوا قد اختاروا عن طواعية االرتداد عما كانوا فيه من التمدن إلى البداوة. وبرر من جهته إسالمهم واستعرابهم بانتقالهم حينها من حضارة رومانية هرمة إلى حضارة إسالمية ّ فتية قوية .فإذا ما صح فهمي دائما ،فالقضية في نظره هي قضية اختيار البربر بين التمدن والبداوة وليس بين عقيدة مسيحية وعقيدة إسالمية .وكأنما االختيار بين ثنائية الحضارة والبداوة هو أسمى من االختيار بين عقيدتين في الدين. والمثير لإلستغراب في كل ذلك هو أنه قد حصل العكس تماما منذ بدايات القرن التاسع عشر ،لما احتلت فرنسا الجزائر سنة 1830وباقي المغرب العربي اتباعا ،حتى منتصف القرن العشرين .حصل ذلك لما صارت الحضارة الغربية فتية وقوية وتقهقرت وهرمت الحضارة اإلسالمية .ومع ذلك ظل كل صروا وال تفرنسوا وال سكان المغرب العربي متشبتين بإسالمهم وبهويتهم األمازيغية والعربية .فما تن ّ فرطوا في لغتهم العربية ولهجاتهم األمازيغية. األمر الذي يؤكد أن االختيار بين عقيدتين في الدين كان وسيظل أسمى وبكثير من االختيار بين ثنائة البداوة والحضارة ،وليس العكس كما يظهر لي من تعليق الدكتور العروي .وللمزيد من التوضيح، لو كنت بدويا وجاءني متمدن يقول لي في العقيدة أن ،3=1وأعني بذلك التثليث في المسيحية ،ثم جاءني بدوي مثلي ،يقول فيها ،1=1وأعني التوحيد المطلق في اإلسالم ،فسأختار عقيدته على الرغم من بداوته ومهما علت حضارة المتمدن. وقد أكد ذلك ﮔوستاﭪ لوبون في كتابه الشهير "حضارة العرب" ،لما قال أن سبب تفضيل البربر لعقيدة البدو العرب على عقيدة الرومان المتمدنين يكمن في كون العقيدة المسيحية معقدة بخصوص طبيعة المسيح في مقابل بساطتها في العقيدة اإلسالمية. وقد استفحل ذلك الخالف بين المسيحين منذ مؤتمر نيقيا األول سنة 325م ،وذلك من بعد ما اضطهدتهم روما طيلة ثالثة قرون حتى حين تبنى اإلمبراطور قسطنطين عقيدتهم كدين رسمي للدولة سنة 313م ،وفرضه على كامل أقاليم اإلمبراطورية .وقد فرضه في المقام األول على كبار الكهنة الوثنيين من حوله .أولئك الكهنة الذين ورثوا من وثنيتهم العتيقة عادة تأليه البشر وفي مقدمتهم أرواح آبائهم مع دوام تأليههم لروملوس األسطوري مؤسس دولتهم. وكون المسيح عليه السالم إبن مريم العذراء من دون أب بشري ،أرادوه على عادتهم القديمة ابنا هلل ،وفرضوا ذلك على كل رعايا اإلمبراطورية .وهنالك نشأ الخالف معهم وبالضبط بمصر في شمال شرق إفريقيا بزعامة أريوس الذي كان من أصل بربري .أريوس الذي لم ينكر بنوة المسيح هلل وإنما رفض تسويته معه في الجوهر .وحصل خالف مماثل في كون طبيعة المسيح هل هو من الالهوت أو من الناسوت بين اليعاقبة والنسطوريين من العرب المناذرة بالعراق والغساسنة في الشام. وهؤالء كانوا عربا ومتمدنين تحت سيادة الفرس بالعراق والرومان بالشام .وقد اعتنق جلهم اإلسالم لما جاءهم به إخوانهم البدو من جزيرة العرب .اعتنقوه بيسر كبير لما وجدوا فيه ،كما قال ﮔوستاﭪ لوبون ،البساطة بخصوص طبيعة المسيح عليه السالم .فهم كذلك ،مثل البربر بشمال إفريقيا، سما عندهم االختيار بين عقيدتين على االختيار بين ثنائية الحضارة في مقابل البداوة ،وليس العكس كما فهمت من تعليق الدكتور العروي. وهذا السمو في االختيار بين الثنائيتين هو الذي ال يزال باألحرى يثير استغراب جل الغربيين ويشكل في نظرهم فضيحة ما بعدها فضيحة .وذلك بسبب غرورهم بتفوق حضارتهم وتمدنهم صر، وإصرارهم معه على تجاهل حقيقة اإلسالم .فما يحلو لهم تجاهله هو كيف للمسلم أن يرتد ويتن ّ وقد جاءه القرآن بكل الحقائق البسيطة عن طبيعة عيسى عليه السالم ،ومتضمنا لسورة باسم أمه مريم العذراء ؟ وبإصرارهم على تجاهل حقيقة اإلسالم سيظل يتعذر عليهم إدراك أن المسلم يشعر في قرارة نفسه بأن عقيدته بخصوص المسيح عليه السالم هي العقيدة الصحيحة وأنها متقدمة ببساطتها وبكثير عن تعقيدات عقيدة المسيحي بخصوصه ،مهما كانوا متقدمين عليهم حضاريا .فال يدركون أن ابتغاء صر المسلم هو من قبيل ابتغاء وانتظار قبوله بتقهقر عقيدته في المسيح إلى الوراء .تقهقر وانتظار تن ّ مخل بعقيدة التوحيد عنده ،ال يقبل بمثله إال األحمق. فهكذا طيلة عهد االستعمار ظل المبشرون يقدمون خدمات في الصحة للمسلمين وال سيما للمسلمات من بعد وعظهم وتحديثهم بالعقيدة المسيحية بلغاتهم المحلية .وغالبا ما كان المرضى ال يسمعون لحديثهم منتظرين فقط ساعة التمريض والتطبيب .ويحكى أن امرأة مسلمة من بين المرضى سمعت من المبشرين ما قالوا عن المسيح ،وهي تظن أن ما قيل عنه ال عيب فيه .فقالت للمبشرة : "كيف تعريفين كل هذا عن سيدنا عيسى ولم تسلمي بعد ؟" .هذا من امرأة مسلمة فقيرة وبال شك أميّة. فكيف بالمتعلمين ؟ لهذا لم تنفع في تنصير المسلمين حمالت التبشير القوية وبكل حرية ،طيلة عهد االستعمار .كما لم تنفع في تنصير العدد الهائل من المسلمين المهاجرين ببالد النصارى الفائقة التمدن ،حيث بنوا المساجد بجانب الكنائس أينما تواجدوا .بل منهم ببلجيكا مثال ،من وجدتهم بنفسي يختارون ألبنائهم المدارس الكاثوليكية الممونة بالكامل من المال العام ،معتقدين أنها أكثر عناية بالتالميذ من باقي المدارس العمومية .وذلك من دون أدنى خوف عليهم من التنصير .مع كون أولئك اآلباء متشبثين ومعتزين بإسالمهم. وذلك هو ما ال يزال باألحرى يحيّر الغربيين مسيحيين وملحدين ،ويحز في أنفس بعضهم .حيرة سببها غرورهم بكونهم متقدمين على المسلمين في التمدن .فيصرون على تجاهل ما جاء به القرآن الكريم في حق طبيعة المسيح عليه السالم وفي أ ّمه مريم وعلى تجاهل ما جاء به من قيم نبيلة بالنسبة لكل البشر .ولما يقرأونه ال يفتشون فيه سوى عما بتأويله يوافق ما يحلو لهم اعتقاده فيه .فيصح في حقهم قوله تعالى "فَأ َ َّما الَّذِينَ فِي قلوبِ ِهم زَ ي ٌغ فَ َيت َّ ِبعونَ َما تَشَابَهَ ِمنه ابتِغَا َء ال ِفتنَ ِة َوابتِغَا َء تَأ ِوي ِل ِه" .وذلك مما يفسر تمادي بعضهم في التحرش بالمسلمين المتشبثين بدينهم من بينهم في أرض المهجر المسيحية والمتقدمة. وعليه فإذا ما صح فهمي مرة أخرى لما جاء في حديث الدكتور العروي أعاله ،فقد حق لي االستغراب من استغرابه ومن استنتاجه .ومع ذلك يبقى استاذنا الفاضل فوق رؤوسنا عالما جليل القدر.