Telechargé par Mustapha HMIMOU المصطفى حميمو

المصطفى حميمو : تحصين الشباب ضد التطرف بتدريس التاريخ بحُلوه ومُرّه

‫تحصين الشباب ضد التطرف بتدريس التاريخ بحلوه وم ّره‬
‫المصطفى حميمو‬
‫وأنا أقرأ كتاب "المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر (إنولتان ‪")1912-1850‬‬
‫لمؤلفه األستاذ أحمد التوفيق‪ ،‬وزير األوقاف حاليا‪ ،‬تذكرت حقيقة وطبيعة المقررات‬
‫المدرسية في مادة التاريخ التي جاء في حقها بكتاب "البحث في تاريخ المغرب حصيلة‬
‫وتقويم" عن كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بالرباط ما يلي ‪" :‬إن القوى السياسية‪ ،‬سواء‬
‫كانت في الحكم أو خارجه‪ ،‬حرصت أشد الحرص على ترسيخ الهوية الوطنية بُعيد‬
‫االستقالل‪ ،‬فاستعملت التاريخ إلذكاء الحس الوطني وتوحيد أمة حاول االستعمار أن يشتتها‬
‫بكل الوسائل‪ ،‬وطبيعي أن يكو ذلك التاريخ موجها نحو تخليد األمجاد والتركيز على كل‬
‫المظاهر التي تدعم وحدة األمة وتقوي الدولة الوطنية‪ .‬وهذا التاريخ لم يكن بالضرورة هو‬
‫التاريخ الذي تتوق إليه همم المؤرخين الشباب والذين كان اهتمامهم يتعدى الوجه الزاهي‬
‫والمشرق من الماضي"‪.‬‬
‫فتأكد لي أن مضمون مادة التاريخ المدرسة ظل وال يزال مقتصرا عمدا على ذكر ما‬
‫جاء في أحداث الماضي من أمجاد وعلى إظهار وجهها الزاهي والمشرق من دون غيره‪.‬‬
‫واكتشفت من خالل نفس النص مبررات تلك السياسة وتفهمتها‪.‬‬
‫لكنها في نظري سياسة صارت ال تخلو من مخاطر منذ الثورة اإليرانية سنة ‪.1979‬‬
‫سياسة جعلت منذ ذلك الحين وال تزال تجعل المتلقي يقارن أحواله اليوم بأحوال أسالفه‬
‫المقتصرة في تدريس مادة التاريخ على ُحلوها من دون ُمرها‪ .‬فيتوهم أنهم عاشوا في بحبحة‬
‫دائمة من األمن واالستقرار والرخاء‪ .‬ولما يستغني بما تلقاه في المدرسة عن قراءة تاريخ‬
‫أمته بكتب المؤرخين المسلمين الوافرة‪ ،‬ب ُحلوها و ُمرها‪ ،‬وال يقرأ عوض ذلك من تراث‬
‫المسلمين سوى كتب التفسير والحديث والفقه‪ ،‬يتوهم أن ذلك الماضي الزاهي والمشرق قد‬
‫ساد بفضل اتباع تعاليم اإلسالم النبيلة‪ ،‬فيسخط على حاضره ويعزو ما فيه من فساد‪ ،‬متوهما‬
‫دائما‪ ،‬لالبتعاد عن تعاليم الدين الحنيف في هذا العصر من دون غيره‪ .‬ومن ذلك الوهم‬
‫المركب يـــــتــــغـــــذى‪ ،‬في نظري‪ ،‬التطرف المطالب بالعودة إلى ماضي‬
‫يُــــــتـــــوهـــــــم أنه كان كله مجيدا‪.‬‬
‫فال بد‪ ،‬في نظري مرة أخرى‪ ،‬لألجيال الصاعدة من أن تعرف حقيقة تاريخ عيش‬
‫أسالفها‪ُ ،‬حكاما ومحكومين‪ ،‬كما وردت‪ ،‬ب ُحلوها و ُمرها‪ ،‬في كتب المؤرخين المسلمين‬
‫الوافرة‪ .‬وعلى ضوئها فقط تتمكن من تقييم أحوالها في حاضرها التقييم الصحيح‪ ،‬فتنظر‬
‫بالمقارنة‪ ،‬وبمعيار مقاصد الشريعة‪ ،‬من حفظ النفس والدين والعرض والمال‪ ،‬هل‬
‫تـــــــقــــــدم بلدها في ظل الدولة الحديثة أم تـــــقــــهـــقـــــــر‪ .‬وكان ذلك مطلب كلية‬
‫اآلداب والعلوم اإلنسانية بالرباط‪ ،‬لكن من حيث البحث العلمي الصرف في التعليم العالي‪،‬‬
‫وليس من أجل توعية األجيال الصاعدة منذ الصغر‪.‬‬
‫سياسة جامعية تمخضت عن البحث في التاريخ االجتماعي وعن وضع األسس لتاريخ‬
‫علمي شمولي‪ ،‬وذلك منذ سنة ‪ .1976‬ومن نتائجها في نفس الكتاب "البحث في تاريخ‬
‫المغرب حصيلة وتقويم" الصادر عن نفس الكلية‪ ،‬أن البحث الجامعي خالل هذه المرحلة قد‬
‫ركز على التاريخ االجتماعي بدل التاريخ السياسي كما كان الشأن عند المؤرخين التقليديين‪،‬‬
‫وترسخ االعتقاد لدى المؤرخين الجدد بأن التاريخ الحقيقي يوجد على مستوى القاعدة وأن‬
‫دراسة تاريخ المجتمعات من خالل مشاغلها اليومية أخصب وأفيد من دراسة التاريخ‬
‫السياسي وحده‪.‬‬
‫فكان من ثمرات تلك البحوث على يد باحثين مغاربة كتاب "المجتمع المغربي في‬
‫القرن التاسع عشر (إنولتان ‪ ")1912-1850‬لألستاذ أحمد التوفيق وزير األوقاف حاليا‪ .‬من‬
‫بعد المقدمة وبعض الفصول التمهيدية يأتي المؤلف انطالقا من الصفحة ‪ 141‬بنموذج من‬
‫نماذج واقع المجتمع بالبالد‪ُ ،‬حكاما ومحكومين‪ ،‬في القرن التاسع عشر‪ .‬نموذج من قرية‬
‫إنولتان بمنطقة دمنات‪ .‬بحث موثق من مصادر ومراجع مغربية‪ ،‬من طرف باحث مغربي‬
‫غيور على وطنه‪ ،‬وليس من أجنبي ُمغرض‪ .‬كتاب يستحق تدريسه على األقل في نفس‬
‫المنطقة‪ .‬وبفضل االطالع على كل ما جاء فيه من ُحلو و ُمر يتحصن حتما الشباب من كل‬
‫تطرف‪ ،‬فال يبغي معه بديال عن الدولة الحديثة‪.‬‬
‫وتجدر اإلشارة إلى أن ما جاء في هذا الكتاب عن هذه المنطقة في ذلك العصر ال‬
‫يختلف كثيرا عما جاء في كتب الدبلوماسيين والرحالة والزوار األجانب بمختلف مناطق‬
‫المغرب‪ ،‬من القرن الثامن عشر حتى بداية القرن العشرين‪ .‬صحيح أن كل أولئك األجانب‬
‫كانوا بشكل أو بآخر جواسيس‪ .‬لكنهم نقلوا في كتبهم صور المغرب كما شاهدوها بالفعل أو‬
‫سمعوا عنها من طرف مغاربة مسلمين ويهود‪ .‬واألستاذ أحمد التوفيق يستشهد في كتابه عن‬
‫دمنات بشهادات من ُكت ُب بعضهم الذين مروا منها‪ .‬وفي كتاب االستقصا ألحمد بن المختار‬
‫الناصري ما يُغني عن كتبهم بالنسبة لمجمل تاريخ المغرب بخصوص الحكام والمحكومين‪،‬‬
‫وبحلوه ومره‪.‬‬
‫ومن المعلوم أنه ما خلى ولن يخلو يوم مجتمع بشري من فساد‪ .‬لكن بالمقارنة من بعد‬
‫استقراء كتب المؤرخين المسلمين‪ ،‬ففساد اليوم بالدولة الحديثة هو أقل وبكثير من فساد‬
‫الماضي في ظل الدولة التقليدية‪ .‬وبنفس المقارنة دائما وباستقراء نفس الكتب‪ ،‬فاألمن على‬
‫النفوس والدين والعرض والمال صار هو الــقــاعدة اليوم في ظل الدولة الحديثة‪،‬‬
‫واالستثناء غالبا ما ال يفلت من قبضة العدالة‪ .‬في حين غـــالــبــا ما كان ذلك األمن على‬
‫الحرمات هو االستثناء في الدولة التقليدية بالنسبة للمحكومين وال سيما بالنسبة للحكام‬
‫وأعوانهم أنفسهم‪.‬‬
‫ومن حق كل مغربي أن يطلع على ما جاء في كتاب االستقصا مثال‪ ،‬ألحمد بن‬
‫المختار الناصري من خالل اعتماده كمرجع مهم في تدريس مادة تاريخ المغرب مع اعتماد‬
‫تاريخ ابن خلدون مثال بالنسبة لتاريخ بقية العالم المسلم‪ .‬ومفعول كل ذلك سيكون بال شك‬
‫كمفعول كتاب األستاذ التوفيق اإليجابي والمتوقع‪ ،‬بالنسبة لشباب منطقة دمنات‪ ،‬لما بفضل‬
‫قراءته لن يبغي بديال عن الدولة الحديثة بعيدا كل البعد عن التطرف‪.‬‬
‫وفي الختام‪ ،‬فمن بعد ما يزيد على ستة عقود على استقالل البالد‪ ،‬ال خوف‪ ،‬في‬
‫اعتقادي‪ ،‬على أمنها وعلى وحدتها من معرفة حقيقة تاريخها بحلوه ومره‪ .‬بل من شأن‬
‫معرفتها أن تقوي تشبث المغاربة‪ ،‬وال سيما األجيال الصاعدة‪ ،‬بدولتهم الحديثة‪ ،‬وأن يرسخ‬
‫في عقولهم التفكير في المزيد من التقدم بها وتطوير ونمائها‪ ،‬بدال من التفكير في إعادة إنتاج‬
‫الدولة العتيقة التقليدية التي يُتوهم أنها كانت كلها زاهية ومشرقة ومليئة باألمجاد‪ ،‬مع ما‬
‫يصاحب ذلك من تهديد ألمن البالد والعباد‪ .‬فهذا هو موضوع هذه الورقة المطروح هنا‬
‫للمناقشة‪.‬‬