Telechargé par Lassaad Sassi

كليلة ودِمنة

publicité
‫كليلة و ِدمنة‬
‫ابب البوم والغرابن‬
‫قال الملك للفيلسوف‪ :‬قد فهمت ما ذكرت من أمر الإخاء ومنفعته وعظيم الفائدة فيه‪ ،‬فاضرب لي‬
‫العدو هل يصير صديقًا؟ وهل يوق بشيء منه؟‬
‫التضرع‪ ،‬وأخبرني عن ِ‬
‫لمغتر ِ‬
‫مثل ا ِ‬
‫ابلعدو المب ِدي ُّ‬
‫عدوه ومن أهل المنابذة‬
‫ضرها؟ وكيف ينبغي للملك أن يصنع اإذا أاته أمر من ِ‬
‫وكيف العداوة؟ وما ُّ‬
‫يلتمس به الصلح‪ ،‬وهو في نفسه غير أمين‪ ،‬ول حقي ابلطمأنينة‪.‬‬
‫عدوه الذي يتخوفه على نفسه وجنده — وإان‬
‫قال الفيلسوف‪ :‬ليس أحد بحقي اإذا أاته أمر من ِ‬
‫كان يلتمس المان والصلح‪ ،‬ويظهر المودة لجنده والسالمة لصحابه — أن يث به ول يطمئن اإليه‬
‫العدو الذي ل ينبغي أن‬
‫ول يغتر بقوله؛ فاإنه قد يكون بأش باه ذلك يطلب النُّهزة والفرصة‪ ،‬ومثل ِ‬
‫الشر ما‬
‫يغتر به‪ ،‬وإان هو أظهر المودة والصفاء‪ ،‬ومن يسترسل اإلى ِ‬
‫عدوه ويطمئن اإليه؛ فيصيبه ُّ‬
‫أصاب البوم من الغرابن‪ ،‬قال الملك‪ :‬وكيف كان ذلك؟ قال الفيلسوف‪ :‬زعموا أن أرضً ا تسمى كذا‬
‫وكذا‪ ،‬كان حولها جبل عظيم محيط بها‪ ،‬وكان فيه شجرة عظيمة كثيرة الغصون شديدة اللتفاف‬
‫يقال لها يبمرود وكان فيها وكر أ ِلف غراب‪ ،‬ولهن م ِلك منهن‪ ،‬وكان في ذلك الجبل وكر ألف من‬
‫البوم‪ ،‬فخرج ملك البوم ذات ليلة لعداوة بين البوم وال ِغرابن‪ ،‬فوقعت البوم على الغرابن فأكثرن‬
‫‪1‬‬
‫فيهن القتل وال ِجراح‪ ،‬ولم يعلم ملك الغرابن بذلك حتى أصبح؛ فلما كان الغد‪ ،‬ورأى ما لقي جنده‬
‫اهتم وحزن وقال‪ :‬اي معشر الغرابن! قد ترون ما لقينا من البوم‪ ،‬وما أصابنا منهن‪ ،‬وأشد ما أصابكن‬
‫متخوف من كرتهن بمثلها أو أ ِ‬
‫شد منها عليكن‪.‬‬
‫جرأتهن عليكن‪ ،‬ومعرفتهن مكانكن‪ ،‬وأان ِ‬
‫وكان في الغرابن خمسة ذوو رف وعلم ونظر في المور ومعرفة بحسن الرأي وال ِحيل‪ ،‬وكان الملك‬
‫يشاورهم وينتهيي اإلى رأيهم‪ ،‬فقال الملك للول من الخمسة‪ :‬قد كان ما رأيت‪ ،‬ولس نا نأمن‬
‫للعدو‬
‫رجعتهم‪ ،‬فما الحيلة؟ فقال‪ :‬الحيلة في الذي كانت العلماء تقول‪ ،‬فاإنهم كانوا يقولون‪ :‬ليس ِ‬
‫الحنِ الذي ل يطاق اإل الهرب منه والتباعد عنه‪ .‬قم سأل الملك الثاني‪ ،‬فقال‪ :‬ما رأيك أنت؟ قال‪:‬‬
‫لعدوان عند أول‬
‫أما ما أشار به هذا عليك فال أراه ح ْز ًما‪ ،‬ول ينبغي لنا أن ن ِفر من بالدان‪ ،‬ونذل ِ‬
‫لعدوان‪ ،‬ونذكي العيون ما بيننا وبينهم‪ ،‬ونحترس من ال ِغرة والعودة‪،‬‬
‫نكبة‪ ،‬ولكن نج ِمع أمران‪ ،‬ونس تعد ِ‬
‫فاإذا أقبل علينا عد ُّوان لقيناه مس ِ‬
‫تعدين لقتاله‪ ،‬فقاتلناه مزاحف ًة تلقى أطرافنا أطرافه‪ ،‬ونتحرز منه‬
‫تحرزا حصينًا‪ ،‬وندافع الايم حتى نصيب منه ِغرة ولعلنا نظفر به‪ .‬قم قال الملك للثالث‪ :‬ما ترى فيما‬
‫ً‬
‫قال صاحباك؟ قال‪ :‬لم يقول شيئًا‪ ،‬ولعمري ما مدافعة الايم والليالي بمس تقر لنا فيما بيننا وبين‬
‫العدو‪ ،‬وننظر هل يقبلن صل ًحا أو فدي ًة أو‬
‫البوم‪ ،‬وما الرأي اإلى أن نذكي العيون والطالئع بيننا وبين ِ‬
‫خرا ًجا نؤديه اإليهن‪ ،‬وندفع عن أنفس نا خوفهن‪ ،‬ونأمن في أوطاننا وأوكاران؛ فاإن من الرأي للملوك اإذا‬
‫عدوهم وخافوا على أنفسهم ورعيتهم الهلكة والفساد‪ ،‬أن يجعلوا الموال جنة للرعية‬
‫اش تدت شوكة ِ‬
‫لصلح الذي ذكر هذا؟ قال‪ :‬ل أرى‬
‫والبالد‪ .‬فقال الملك للرابع‪ :‬ما رأيك أنت فيما قال صاحباك‪ ،‬وا ِ‬
‫حب اإلينا من وضع أحسابنا‪،‬‬
‫ذلك‪ ،‬بل ترك أوطاننا والصطبار على الغربة وشد ِة المعيشة أ ُّ‬
‫لعدوان الذي نحن خير منه وأشرف‪ ،‬مع أني قد عرفت أان لو عرضنا ذلك عليهن لم يقبلن‬
‫والخضوع ِ‬
‫اإل ابلش تطاط‪ ،‬وقد يقال‪ :‬قا ِرب عدوك بعض المقاربة تن ْل منه حاجتك‪ ،‬ول تقاربه كل المقاربة‬
‫فيجترئ عليك بها‪ ،‬ويضعف وي ِذل لها جندك‪ ،‬ومثل ذلك مثل الخش بة القائمة في الشمس ‪ ،‬فا ْإن‬
‫أملْتها ً‬
‫قليال زاد ظلُّها‪ ،‬وإان جاوزت الحد في اإمالتها ذهب الظل‪ ،‬وليس عد ُّوان براض منا ابلدون في‬
‫المقاربة‪ ،‬فالرأي لنا المحاربة والصبر‪ .‬فقال الملك للخامس‪ :‬ما رأيك أنت؟ ألصلح أم القتال أم‬
‫عدوه‬
‫الجالء؟ قال‪ :‬أما القتال فال سبيل اإلى قتال من ل نقاربه في القوة والبطش؛ فاإنه من أقدم على ِ‬
‫‪2‬‬
‫اس تضعافًا له اغتر‪ ،‬ومن اغتر أمكن ِمن نفسه ولم يسلم‪ ،‬وأان للبوم شديد الهيبة‪ ،‬ولو أنها أضربت‬
‫عن قتالنا‪ ،‬وقد كنا نهابها قبل اإيقاعها بنا‪ ،‬فاإن العاقل ل يأمن عدوه على كل حال؛ اإن كان بعيدًا لم‬
‫يأمن من معاودته‪ ،‬وإان كان م ِ‬
‫تكشفًا لم يأمن اس تطراده‪ ،‬وإان كان قري ًبا لم يأمن مواقبته‪ ،‬وإان كان‬
‫وحيدًا لم يأمن مكره‪ ،‬وأكيس القوام من لم يكن يلتمس المر ابلقتال ما وجد اإلى غير القتال‬
‫ً‬
‫سبيال؛ فاإن النفقة في القتال من النفس‪ ،‬وغير ذلك اإنما النفقة فيه من الموال‪ ،‬فال يكونن قتال‬
‫البوم من شأنكم؛ فاإن من يواكل الفيل يواكل الحيف‪ .‬قال الملك‪ :‬فما ترى اإذ كرهت ذلك؟ قال‪:‬‬
‫نأتمر ونتشاور‪ ،‬فاإن الملك المشا ِور المؤامر يصيب في مؤامراته ذوي العقول من نصحائه من الظفر‬
‫ما ل يصيبه ابلجنود والزحف وكثرة العدد‪ ،‬فالملك الحازم يزداد ابلمؤامرة والمشاورة ورأي الوزراء‬
‫عدوه‪ ،‬وفرصة‬
‫الحزمة كما يزداد البحر بمو ِاده من النهار‪ ،‬ول يخفى على الحازم قدر أم ِره وأم ِر ِ‬
‫قتاله‪ ،‬ومواضع رأيه ومكايدته‪.‬‬
‫ول ينفك يعرض المور على نفسه أ ًمرا أ ًمرا‪ ،‬يتروى في الإقدام على ما يريد منها‪ ،‬والعوان الذين‬
‫يس تعين بهم عليها‪ ،‬والعدد التي يع ُّد لها‪ ،‬فمن ل يكون له رأي في ذلك ول نصيحة من الوزراء‬
‫الذين يقبل منهم لم يلبث‪ ،‬وإان ساق القدر اإليه ًّ‬
‫حظا‪ ،‬أن يضيِع أمره‪ ،‬فاإن الفضل المقسوم لم يقيض‬
‫للجمال ول للحسب‪ ،‬ولكنه و ِكل ابلعاقل المس تمع من ذوي العقول‪ ،‬وأنت أيها الملك كذلك‪ ،‬وقد‬
‫سرا‪ .‬أما ما ل أكره أن أعلنه فاإني كما‬
‫استشرتني في أمر أريد أن أجيبك في بعضه عالنية وفي بعضه ًّ‬
‫ل أرى القتال ل أرى الخضوع ابلخراج والرضا ِ‬
‫بذل الدهر؛ فاإن العاقل الكريم يختار الموت كري ًما‬
‫محافظا‪ ،‬على الحياة خزاين ً‬
‫ذليال‪ ،‬وأرى أن ِ‬
‫ً‬
‫نؤخر النظر في أمران‪ ،‬ول يكونن من شأنك التثبُّط‬
‫سرا‪ ،‬فاإنه قد كان يقال‪ :‬اإنما يصيب‬
‫والتهاون؛ فاإن التهاون رأس العجز‪ .‬وأما ما أريد اإسراره فليكن ًّ‬
‫الملوك الظفر ابلحزم‪ ،‬والحزم بأصالة الرأي‪ ،‬والرأي بتحصين السرار‪ ،‬وإانما يطلع على السر من ِقبل‬
‫خمسة‪ :‬من ِقبل صاحب الرأي‪ ،‬ومن ِقبل مشا ِو ِره‪ ،‬ومن ِقبل ا ُّلرسل والبرد‪ ،‬ومن ِقبل المس تمعين‬
‫الكالم‪ ،‬ومن ِقبل الناظرين في أثر الرأي ومواقع العمل ابلتشبيه والتظنِي‪ ،‬ومن حصن سره فاإنه من‬
‫تحصينه اإايه في أحد أمرين‪ :‬اإما ظفر بما يريد‪ ،‬وإاما سالمة من عيبه وضره اإن أخطأه ذلك‪ ،‬ول بد‬
‫لمن نزلت به انئبة من استشارة الناصح‪ ،‬وطل ِب من يعاونه على الرأي‪ ،‬ويفضي اإليه‪ ،‬فاإن‬
‫المستشير‪ ،‬وإان كان أفضل من المستشار رأ ًاي‪ ،‬فاإنه يزداد ابلمشورة رأ ًاي ً‬
‫وعقال؛ كما تزداد النار‬
‫ابلودك ض ًوءا‪ ،‬وعلى المستشار موافقة المستشير على صواب ما يرى‪ ،‬والرف به في تبصيره ِ‬
‫ورده‬
‫سرهما‪ ،‬فاإن‬
‫عن خطأ رأي — اإن كان منه — وتقليب الرأي فيما يشكل عليه حتى يس تقيم لهما ُّ‬
‫‪3‬‬
‫عدوه‪ ،‬كالرجل الذي يرقي الش يطان ليرسله على‬
‫لم يكن المستشار كذلك‪ ،‬فهو على المستشير مع ِ‬
‫الإنسان‪ ،‬فاإذا لم يح ِكم ُّالرقية كان به يتلبس‪ ،‬وإاايه يأخذ‪ .‬وإاذا كان الملك م ِ‬
‫متخي ًرا‬
‫حصنًا لسراره‪ِ ،‬‬
‫للوزراء‪ ،‬مهي ًبا في أنفس العامة‪ ،‬بعيدًا من أن يعلم ما في نفسه‪ ،‬ل يضيع عنده حسن بالء‪ ،‬ول‬
‫يسلم منه ذو جرم‪ِ ،‬‬
‫مقد ًرا لما يفيد ولما ينف ‪ ،‬كان خليقًا أل يسلب صالح ما أُعطي‪.‬‬
‫السر ما يدخل فيه الرهط‪ ،‬ومنه ما يدخل فيه الرجالن‪ ،‬ومنه ما يس تعان فيه‬
‫والسرار منازل؛ فمن ِ‬
‫السر — في قدر منزلته — أن يشترك فيه اإل أربع أذان ولساانن؛ فنهض‬
‫ابلقوم‪ ،‬ول أرى لهذا ِ‬
‫الملك فخال معه واستشاره‪ ،‬فكان مما سأل عنه أن قال‪ :‬هل تعلم ما كان سبب عداوة ما بيننا‬
‫وبين البوم؟ قال‪ :‬نعم! كلمة تكلم بها غراب مرة‪ ،‬قال الملك‪ :‬وكيف كان ذلك؟ قال الغراب‪ :‬زعموا‬
‫أن جماع ًة من الطير لم يكن لها ملك‪ ،‬وأنها اجتمعت أراؤها على بوم لت ِملكه عليها‪ ،‬فبينما هم في‬
‫ذلك اإذ وقع لهم غراب فقال بعضهم‪ :‬انتظرن حتى يأتينا هذا الغراب لنستشيره في أمران؛ فأاتهن‬
‫الغراب فاستشرنه فيما قد أجمعن عليه من تمليك البوم‪ ،‬فقال الغراب‪ :‬لو أن الطير كلها ف ِقدت‬
‫منظرا‪،‬‬
‫وابدت‪ ،‬وف ِقد الطاوس والبطُّ والحمام والكر ُّكي‪ ،‬لما اضط ِررتن اإلى تمليك البوم أقب ِح الطير ً‬
‫وأسوئها مخب ًرا‪ ،‬وأ ِقلها ً‬
‫عقول‪ ،‬وأ ِ‬
‫شدها غض ًبا‪ ،‬وأبعدها رحم ًة‪ ،‬مع الذي بها من الزمانة والعشى‬
‫شر أمورها سوء تدبيرها‪ ،‬ول يطي طائر يقرب منه لصلفه وخبث نتْنه وسوء خلقه‪،‬‬
‫ابلنهار‪ ،‬ومن ِ‬
‫اإل أن ترين تمليكه وتدبير المور دونه؛ فاإن الملك‪ ،‬وإان كان ً‬
‫جاهال‪ ،‬اإذا كان يقدر على الد ِنو منه‬
‫وكانت قرابينه ووزراؤه ورسله صالحين نفذ أمره ورأيه واس تقام له ملكه‪ ،‬كما فعلت الرنب التي‬
‫زعمت أن القمر م ِلكها‪ ،‬وعملت برأيها؛ قال الطير‪ :‬وكيف كان ذلك؟ قال الغراب‪ :‬زعموا أن أرضً ا‬
‫من أرض ال ِفيلة‪ ،‬تتابعت عليها الس نون وأجدبت‪ ،‬فقل الماء في تلك البالد وغارت العيون‪،‬‬
‫وأصاب الفيلة عطش شديد‪ ،‬فشكت ذلك اإلى ملكها‪ ،‬فأرسل الملك رسله ورواده في التماس الماء‬
‫في كل انحية‪ ،‬فرجع اإليه بعض رسله فأخبره بأنه وجد في بعض المكنة عينًا تدعى القمرية‪ ،‬كثيرة‬
‫الماء‪ ،‬فتوجه ملك ال ِفيلة بفيلته اإلى تلك العين ليشربن منها‪ ،‬وكانت تلك الرض أرض أرانب‪،‬‬
‫فوطئت الفيلة الرانب بأرجلها في ِجحرتها فأهلكن أكثرها‪ ،‬فاجتمع البقية منها اإلى ملكها فقلن له‪ :‬قد‬
‫علمت ما أصابنا من الفيلة‪ ،‬فا ْحت ْل لنا قبل رجوعهن علينا‪ ،‬فاإنهن راجعات ل ِوردهن وم ْف ِنياتنا عن‬
‫أخران‪ ،‬فقال ملكهن‪ :‬ليحض ْرني ك ُّل ذي رأي برأيه‪ ،‬فتقدم خزز منها يقال له فيروز‪ ،‬وقد كان الملك‬
‫عرفه ابلدب والرأي‪ ،‬فقال‪ :‬اإن رأَى الملك أن يبعثني اإلى الفيلة ويبعث معي أمينًا يرى ويسمع ما‬
‫أقول وما أصنع ويخبره به‪ ،‬فليفعل‪ .‬فقال له ملك الرانب‪ :‬أنت أميني‪ ،‬وأان أرضى رأيك‪ ،‬وأ ِ‬
‫صدق‬
‫‪4‬‬
‫قولك‪ ،‬فانط ِل اإلى ال ِفيلة و ِبلغ عنِي ما أحببت‪ ،‬واعمل برأيك‪ ،‬واعلم أن الرسول به وبرأيه وأدبه‬
‫يعتبر عقل المرسل وكثير من شأنه‪ ،‬وعليك ابللين والموااتة‪ ،‬فاإن الرسول هو يلين القلب اإذا رف ‪،‬‬
‫و ِ‬
‫يخشن الصدر اإذا خ ِرق‪ .‬فانطل الرنب في ليلة القمر فيها طالع‪ ،‬حتى انتهيى اإلى موضع ال ِفيلة‪،‬‬
‫فكره أن يدنو منهن فيطأنه بأرجلهن وإان لم ي ِردْن ذلك‪ ،‬فأشرف على تل فنادى ملك الفيلة ابسمه‪،‬‬
‫وقال له‪ :‬اإن القمر أرسلني اإليك‪ ،‬والرسول ِ‬
‫مبلغ غير ملوم وإا ْن أَغْلظ في القول‪ .‬فقال له ملك الفيلة‪:‬‬
‫وما الرسالة؟ قال‪ :‬يقول لك القمر‪ :‬اإنه من عرف فضل قوته على الضعفاء فاغتر بذلك من القوايء‬
‫كانت قوته ح ْينًا ً‬
‫ووابل عليه‪ ،‬وإانك قد عرفت فضل قوتك على الدواب فغرك ذلك منِي فعمدت اإلى‬
‫عيني التي تسمى ابسمي فشربت ماءها وكدرته أنت وأصحابك‪ ،‬وإاني أتقدم اإليك وأُن ِذرك أل تأتيها‬
‫فأُ ِ‬
‫عشي بصرك وأُت ِلف نفسك‪ ،‬وإان كنت في شك من رسالتي‪ ،‬فهلم اإلى العين من ساعتك‪ ،‬فاإني‬
‫موافيك بها‪ .‬فعجب ملك الفيلة من قول فيروز‪ ،‬وانطل معه اإلى العين‪ ،‬فلما نظر اإليها رأى ضوء‬
‫القمر في الماء‪ ،‬فقال له فيروز‪ :‬خذ بخرطومك من الماء واغسل وجهك واسجد للقمر‪ ،‬ففعل‪ ،‬ولما‬
‫أدخل خرطومه اإلى الماء فحركه خيِل اإليه أن الماء يرتعد‪ ،‬فقال ملك الفيلة‪ :‬وما شأن القمر يرتعد؟‬
‫أتراه غضب من اإدخال جحفلتي في الماء؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬فاسجد له‪ .‬فسجد الفيل للقمر واتب اإليه مما‬
‫صنع‪ ،‬وشرط له أل يعود هو ول أحد من فيلته اإلى العين‪.‬‬
‫وشر الملوك المخادع‪،‬‬
‫قال الغراب‪ :‬ومع ما ذكرت لكم من أمر البوم فاإن من شأنها ال ِخب والخديعة‪ُّ ،‬‬
‫للذين حكما ِ‬
‫الس نور الصوام‪ ،‬قالت‬
‫ومن ابتلي بسلطان المخادعين أصابه ما أصاب ا ِلصف ِرد والرنب ا ِ‬
‫الطير‪ :‬وكيف كان ذلك؟ قال الغراب‪ :‬كان لي جار من الصفا ِرد‪ ،‬وجحره قريب من الشجرة التي‬
‫فيها وكري‪ ،‬وكان يكثر مواصلتنا‪ ،‬وطال جوار بعضنا لبعض‪ ،‬قم اإني فقدته فلم أد ِر أين غاب‪،‬‬
‫وطالت غيبته عنِي حتى ظننت أنه قد هلك‪ ،‬فجاءت أرنب اإلى مكانه لتسكنه‪ ،‬فكرهت أن‬
‫أ ِ‬
‫خاصمها في مكان ِ‬
‫الصف ِرد ول أدري ما فعل به الدهر‪ ،‬فلبثت الرنب في ذلك المكان زماانً ‪ ،‬قم اإن‬
‫الصف ِرد رجع اإلى مكانه‪ ،‬فلما وجد فيه الرنب قال لها‪ :‬هذا المكان مكاني‪ ،‬فانتقلي عنه‪ ،‬قالت‬
‫الرنب‪ :‬المسكن في يدي‪ ،‬وأنت المدعي‪ ،‬فاإن كان لك ح فاس ت ْع ِد علي‪ ،‬قال الصفرد‪ :‬المكان‬
‫مكاني‪ ،‬ولي على ذلك ال ِبينة‪ ،‬قالت الرنب‪ :‬نحتاج اإلى القاضي قبل ال ِبينة‪ ،‬قال الصفرد‪ :‬ههنا قريب‬
‫منا القاضي‪ ،‬فانطلقي بنا اإليه‪ ،‬فقالت الرنب‪ :‬ومن القاضي؟ قال الصف ِرد‪ِ :‬س ن ْور متعبِد يصوم النهار‬
‫ويقوم الليل‪ ،‬ول يؤذي دابة ول يأكل اإل الحشيش‪ ،‬فاذهبيي بنا اإليه؛ فانطلقا‪ ،‬وت ِبعتهما لنظر اإلى‬
‫بين له‪ ،‬فلما رأهما قد أقبال من بعيد انتصب قائ ًما ي ِ‬
‫صلي‪،‬‬
‫الصوام وقضائه بينهما‪ ،‬فأتيا اإليه هائ ِ‬
‫‪5‬‬
‫بين له‪ ،‬فطلبا اإليه أن يقضي بينهما‪،‬‬
‫فتعجبت الرنب مما رأت منه‪ ،‬ولما صارا اإليه دنوا منه هائ ِ‬
‫فأمرهما أن يقصا قصتهما عليه‪ ،‬وقال لهما‪ :‬لقد أدركني ال ِكبر وققل سمعي فما أكاد أسمع‪ ،‬فادنوا ِمني‬
‫لسمع منكما‪ ،‬فدنوا وأعادا عليه قصتهما‪ ،‬فقال‪ :‬قد فهمت ما قصصتما‪ ،‬وإاني ابدئكما ابلنصيحة قبل‬
‫القضاء‪ ،‬أمركما أل تطلبا اإل الح ؛ فاإن طالب الح هو الذي يف ِلح وإان قضي عليه‪ ،‬وطالب‬
‫الباط ِل مخصوم وإان قضي له‪ ،‬وليس لصاحب الدنيا في دنياه شيء‪ ،‬ل مال ول صدي ‪ ،‬اإل عمل‬
‫صالح قدمه فقط‪ ،‬والعاقل حقي أن يكون سعيه فيما يبقى ويعود عليه نفعه‪ ،‬ويمقت ما سوى‬
‫ذلك؛ ومنزلة المال عند العاقل منزلة القذى‪ ،‬ومنزلة ِالنساء منزلة الفاعي‪ ،‬ومنزلة الناس عنده —‬
‫يقص عليهما ويدنوان منه‬
‫فيما يحب لهم من الخير ويكره لهم من الشر — منزلة نفسه‪ ،‬فلم يزل ُّ‬
‫ويس تأنسان به؛ حتى وقب عليهما جمي ًعا فقتلهما‪.‬‬
‫قم قال الغراب‪ :‬والبوم تجمع مع سائر العيوب التي وصفت المكر والخديعة‪ ،‬فال يكونن تمليك البوم‬
‫من رأيكن‪ ،‬فصدرت الطير عن خطة الغراب ولم ت ِملك البوم‪ ،‬فقال البوم الذي كان ا ْخ ِتير للملك‪:‬‬
‫لقد وت ْرتنِي أعظم ِالتر ِة‪ ،‬فما أدري هل سلف اإليك منِي سوء اس تحققت به هذا منك؟ وإال فاعلم‬
‫أن الفأس يقطع بها الشجر فتنبت وتعود‪ ،‬والس يف يقطع به اللحم والعظم فيندمل ويلتئم‪ ،‬واللسان‬
‫ل يندمل جرحه ول يلتئم ما قطع‪ ،‬والنصل من النُّشابة يغيب في الجوف قم ينزع‪ ،‬وأش باه النصال‬
‫للسم الدواء‪،‬‬
‫من القول اإذا وصلت اإلى القلب لم تنزع ولم تخرج‪ ،‬ولكل حري مطفئ‪ :‬للنار الماء‪ ،‬و ِ‬
‫وللعش الوصال‪ ،‬وللحزن الصبر‪ ،‬وانر الحقد ل تخبو‪ ،‬وإانكم — معشر الغرابن — قد غرس تم‬
‫بيننا وبينكم شجرة عداوة وحقد‪ ،‬هي ابقية ما بقي الدهر‪.‬‬
‫تورا‪ ،‬ون ِدم الغراب على ما فرط منه‪ ،‬وقال في نفسه‪ :‬لقد خرِقت فيما كان من‬
‫قم انصرف غضبان مو ً‬
‫قولي الذي جلبت به العداوة على نفسي وقومي‪ ،‬ولم أكن أح الطير بهذه المقالة‪ ،‬ول أعناها بأمر‬
‫ثيرا منها قد رأى الذي رأيت‪ ،‬وعلم الذي علمت‪ ،‬فمنعها من ذلك التقاء لما لم‬
‫ملكها‪ ،‬ولعل ك ً‬
‫أَتوقه‪ ،‬والنظر فيما لم أنظر فيه‪ ،‬قم ل س يما اإذا كان الكالم مواجه ًة؛ فاإن الكالم الذي يس تقبِل به‬
‫قائله السامع عما يكره مما يورث الحقد والضغينة‪ ،‬ول ينبغي له أن يسمى كال ًما ولكن يسمى س ًّما‪،‬‬
‫فاإن العاقل‪ ،‬وإان كان واققًا بقوته وقوله وفضله وشدة بطشه ل يحمله ذلك على أن يجني على نفسه‬
‫عداو ًة ً‬
‫اتكال على ما عنده من ذلك‪ ،‬كما أن الرجل‪ ،‬وإان كان عنده الترايق والدوية‪ ،‬ل ينبغي له‬
‫أن يشرب السم ً‬
‫اتكال على ما عنده من ذلك‪ ،‬وإانما الفضل لهل حسن العمل ل لهل حسن‬
‫‪6‬‬
‫القول؛ فاإن صاحب حسن العمل‪ ،‬وإان قصر به القول في بديهته‪ِ ،‬بين فضله عند الخبرة وعاقبة‬
‫المر‪ ،‬وصاحب القول‪ ،‬وإان هو أحسن وأعجب ببديهته وحسن صفته‪ ،‬لم يحمد ذلك منه اإل‬
‫غب أمره‪ ،‬فأان صاحب القول الذي ل عاقبة له‪ ،‬أو ليس من سفهيي اجترائي‬
‫بتحقيقه ابلعمل في ِ‬
‫على التكلم في المر الجس يم ل أستشير فيه أحدًا ول أ ِروي فيه مر ًارا؟ وأان أعلم أن من لم يع ِمل‬
‫رأيه بتكرار النظر ولم يس ِتش ِر النصحاء اللبا ِء في أمره‪ ،‬لم يسر بمواقع رأيه‪ ،‬ولم يحمد ِغب أمره‪،‬‬
‫الغم‪.‬‬
‫فما كان أغناني عما اكتسبت في يومي هذا وما وقعت فيه من ِ‬
‫فعاتب الغراب نفسه بهذا قم انطل ‪.‬‬
‫الغرابن‪ ،‬قال الملك‪ :‬قد فهمت هذا‪،‬‬
‫فهذا ما سألت عنه من العلة التي بدأَت بها العداوة بين البو ِم و ِ‬
‫فخذ بنا فيما نحن أحوج اإليه اليوم‪ ،‬وأ ِشر علينا برأيك الذي ترى أن ن ْعمل به فيما بيننا وبين البوم‪،‬‬
‫قال الغراب‪ :‬أما ال ِقتال فقد كنت عرفت رأييي فيه وكراهيتي له‪ ،‬وأان أرجو أن أقدر من الحيل على‬
‫بعض ما فيه الفرج‪ ،‬فاإنه رب قوم احتالوا برأيهم في المر الجس يم حتى ظفروا منه بحاجتهم التي لم‬
‫يكونوا قدروا عليها ابلمكابرة‪ ،‬كالمكرة الذين مكروا ابلناسك حتى ذهبوا بعريضه‪ ،‬قال الملك‪ :‬وكيف‬
‫كان ذلك؟ قال الغراب‪ :‬زعموا أن انسكًا اشترى عريضً ا ضخ ًما ليجعله قرابانً ‪ ،‬فانطل به يقوده‪،‬‬
‫فبصر به قوم مكرة‪ ،‬فأتمروا ليخدعوه عنه‪ ،‬فعرض له أحدهم فقال له‪ :‬أيها الناسك‪ ،‬ما هذا الكلب‬
‫معك؟ قم عرض له أخر فقال‪ :‬اإني لظن أن هذا الرجل الذي عليه لباس النساك ليس بناسك‪ ،‬فاإن‬
‫الناسك ل يقود الكالب‪ ،‬قم عرض له أخر فقال له‪ :‬أنت تريد الصيد بهذا الكلب؟ فلما قالوا له‪:‬‬
‫ذلك لم يشك أن الذي معه كلب‪ ،‬فقال في نفسه‪ :‬لعل الذي ابعني سحرني وخدعني‪ ،‬فخلى عنه‪،‬‬
‫فأخذه النفر فذبحوه واقتسموه‪.‬‬
‫وإانما ضربت لك هذا المثل لِما أرجو أ ْن ن ِصيب من حاجتنا ابلمكر والرف ‪ ،‬فأان أرى أن يغضب علي‬
‫الملك فيأمر بيي على رءوس جنده فأُضرب وأُنقر حتى أتخضب ابلدم‪ ،‬وينتف ريشي وذنبيي‪ ،‬قم‬
‫أُطرح في أصل الشجرة‪ ،‬قم يرتحل الملك وجنده اإلى مكان كذا وكذا حتى أمكر مكري‪ ،‬قم أتي‬
‫الملك فأع ِلمه المر؛ ففعل به الملك ذلك‪ ،‬وذهب بغرابنه اإلى المكان الذي وصف له‪.‬‬
‫قم اإن البوم جاءت من ليلتها فلم تجد الغرابن‪ ،‬ولم تفطن ابلغراب في أصل الشجرة‪ ،‬فأشف الغراب‬
‫أن ينصرفْن ول يرينه فيكون تعذيبه نفسه ً‬
‫ابطال‪ ،‬فجعل يئِن ويه ِمس حتى سمعه بعض البوم‪ ،‬فلما‬
‫‪7‬‬
‫رأينه أخبرن به م ِلكهن‪ ،‬فعمد نحوه في بومات يسأله عن الغرابن؛ قال الغراب‪ :‬أان فالن بن فالن‪،‬‬
‫وأما ما سألتني عنه من أمر الغرابن‪ ،‬فأنت ترى حالي وما صنعوا بيي‪ ،‬قال ملك البوم‪ :‬هذا وزير‬
‫ملك الغرابن وصاحب رأيه‪ ،‬فسلوه بأ ِي ذنب صنِع به هذا؟ قال الغراب‪ :‬سفه رأييي فعل بيي ما‬
‫ترى‪ ،‬قال الملك‪ :‬وما ذلك السفه؟ قال الغراب‪ :‬اإنه لما كان من اإيقا ِعكن بنا ما كان استشاران‬
‫ملكنا فقال‪ :‬اي أيها الغرابن! أما ترون ما نزل بنا من البوم؟ وكنت من الملك بمنزلة وبمكان‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫الصلح‬
‫قلواب‪ ،‬ولكن الرأي لكم أن تلتمسوا ُّ‬
‫أرى أنه ل طاقة لكم بقتال البوم؛ فاإنهن أش ُّد بطشً ا وأجرأ ً‬
‫وتعرضوا ال ِفدية‪ ،‬فاإن قبِل ذلك منكم وإال فاهربوا في البالد‪ ،‬وأخبرت الغرابن أن قتالكن خير لكن‪،‬‬
‫وشر لهن‪ ،‬وأن الصلح أفضل ما هن مصيبات منكن‪ ،‬وأمرتهن ابلخضوعِ‪ ،‬وضربت لهن في ذلك‬
‫ً‬
‫مثال فقلت‪ :‬اإن العدو الشديد ل ير ُّد بأسه وغضبه شيء هو أمثل من الخضوع له‪ ،‬أل ترون أن‬
‫الحشيش اإنما يسلم من الريح العاصف بلينه وانثنائه معها حيثما مالت‪ ،‬والشجرة العظيمة تحطمها‬
‫لنتصابها لها‪ ،‬والبعوضة تريد اختالس النار ول تتقيها فتحترق منها؟ فغضبن من قولي وزعمن أنهن‬
‫ي ِردن القتال‪ ،‬واتهمنني وقلن‪ :‬بل مالت ملك البوم علينا وغششتنا‪ ،‬ورددن رأييي ونصيحتي‪،‬‬
‫وعذبنني بهذا العذاب‪ .‬فلما سمع ملك البوم ما قال الغراب استشار وزراءه فقال لحدهم‪ :‬ما ترى‬
‫في هذا الغراب؟ فقال‪ :‬لست أرى أن نناظر هذا‪ ،‬وليس لك في أمره نظر اإل المعاجلة ابلقتل؛ فاإن‬
‫هذا من أفضل عدد الغرابن‪ ،‬وفي قتله لنا فتح عظيم وراحة من مكيدته‪ ،‬وفقده على الغرابن‬
‫شديد‪ ،‬وقد كان يقال‪ :‬من اس تمكن من المر الجس يم فأضاعه لم يقدر عليه اثني ًة‪ ،‬ومن التمس‬
‫فرصة العمل وأمكنته قم غفل عنها فاته المر ولم تعد اإليه الفرصة‪ ،‬ومن وجد عدوه ضعيفًا فلم‬
‫يست ِر ْح منه أصابته الندامة حين يقوى العد ُّو ويس تعدُّ‪ ،‬فال يقدر عليه؛ فقال الملك لخر من‬
‫وزرائه‪ :‬ما ترى في هذا الغراب؟ قال‪ :‬أرى أل تقتله؛ فاإن العدو الذليل الذي ل شوكة له أهل أن‬
‫عدوه‬
‫يصفح عنه ويست ْبقى‪ ،‬والمس تجير الخائف أهل أن يؤمن ويجار‪ ،‬مع أن الرجل ربما عطفه على ِ‬
‫المر اليسير؛ كالتاجر الذي عطف عليه السارق امرأته بأمر لم يتعمده؛ قال الملك‪ :‬وكيف كان‬
‫كثرا كان كبير السن‪ ،‬وكانت امرأته شاب ًة ذات جمال‪ ،‬وكان لها‬
‫اتجرا م ً‬
‫ذلك؟ قال الوزير‪ :‬زعموا أن ً‬
‫عاشقًا‪ ،‬وكانت له قالية مبغضة ل ِ‬
‫تمكنه من نفسها‪ ،‬ول يزيده ذلك اإل حبًّا لها‪ ،‬قم اإن سارقًا أتى‬
‫بيت التاجر ليلة‪ ،‬فلما دخل البيت واف التاجر انئ ًما وامرأته مستيقظة‪ ،‬فذ ِعرت من السارق‬
‫ووقبت اإلى التاجر فالتزمته‪ ،‬فاستيقظ التاجر وقال‪ :‬من أين هذه النِعمة؟ فلما بصر ابلسارق قال‪:‬‬
‫‪8‬‬
‫أيها السارق‪ ،‬أنت في ِحل مما أردت أخذه من مالي ومتاعي‪ ،‬ولك علي الفضل بما عطفت علي‬
‫هذه المرأة من معانقتي‪.‬‬
‫قم اإن الملك سأل الثالث من وزرائه عن رأيه في الغراب‪ ،‬فقال الثالث‪ :‬أرى أن تستبقيه وت ِ‬
‫حسن‬
‫اإليه؛ فاإنه خلي بمناصحتك‪ ،‬وإان من اإحكام تمكُّن الرجل من أعدائه أن يس تدخل منهم أعواانً على‬
‫عدوه بعضً ا‪ ،‬وإان اش تغال بعض العدو ببعض‬
‫الباقين‪ ،‬وإان ذا العقل يرى ظف ًرا حس نًا معاداة بعض ِ‬
‫واختالفهم نجاة له كنجاة الناسك عند اختالف اللص والش يطان‪ .‬قال الملك‪ :‬وكيف كان ذلك؟‬
‫حلواب فانطل بها يقودها‪ ،‬وتبعه ِلص فحدث نفسه‬
‫قال الوزير‪ :‬زعموا أن انسكًا أصاب مرة بقر ًة ً‬
‫بأخذها‪ ،‬وتبع اللص ش يطان في صورة اإنسان‪ ،‬فقال اللص للش يطان‪ :‬من أنت؟ قال‪ :‬أان ش يطان‬
‫أريد أن أتبع هذا الناسك‪ ،‬فاإذا انم خنقته‪ ،‬فأنت ماذا؟ قال‪ :‬وأان أريد أن أتبعه اإلى منزله ِلعلي أسرق‬
‫بين حتى انتهيا اإلى منزل الناسك ممس ي ِين‪ ،‬فدخل الناسك وأدخل بقرته قم‬
‫البقرة‪ ،‬فانطلقا مصطح ِ‬
‫تعشى وانم‪ ،‬فأشف اللص أن يبدأ الش يطان ابلناسك قبل أن يسرق البقرة فيصيح فتجتمع الناس‬
‫بصوته فال يقدر على سرقة البقرة‪ ،‬فقال له‪ :‬انتظر حتى أخ ِرج البقرة‪ ،‬قم عليك ابلرجل‪ ،‬فأشف‬
‫الش يطان أن يبدأ اللص ابلبقرة فيتنبه الناسك فال يقدر على أخذه‪ ،‬فقال له‪ :‬بل أ ِنظرني حتى أخنقه‬
‫قم عليك ابلبقرة‪ ،‬فأبيى كل واحد منهما على صاحبه‪ ،‬فلم يزال في اختالف حتى اندى اللص‬
‫الناسك أ ِن انْت ِبهْ؛ فهذا الش يطان يريد أن يخنقك‪ ،‬وانداه الش يطان‪ :‬أيها الناسك‪ ،‬اإن هذا اللص‬
‫يريد أن يسرق بقرتك‪ ،‬فانتبه الناسك وجيرانه لصوتهما وهرب الخبيثان‪.‬‬
‫‪9‬‬
‫فلما فرغ الثالث من كالمه قال الول الذي أشار بقتل الغراب‪ :‬أراكن قد غركن هذا الغراب‬
‫تضرعه‪ ،‬فأنتن ت ِردن تضييع الرأي والتغرير بجس يم المور‪ ،‬فم ًهال ً‬
‫مهال عن هذا‬
‫وخدعكن كالمه و ُّ‬
‫عدوهم‪ ،‬ول يث ِنكن عن رأيِكن فتكونوا‬
‫الرأي‪ ،‬وانظرن نظر ذوي ا ِ‬
‫للب الذين يعرفون أمورهم وأمور ِ‬
‫تضرع‪ ،‬وتكونوا بما‬
‫كالعجزة الذين يغترون بما يسمعون‪ ،‬وتلين قلوبهم ِ‬
‫لعدوهم عند أدنى مل و ُّ‬
‫تسمعون أشد تصديقًا منكم بما تعلمون؛ كالنجار الذي كذب ما رأى وصدق بما سمع‪ ،‬فاغتر‬
‫وانخدع؛ قال الملك‪ :‬وكيف كان ذلك؟ قال الوزير‪ :‬زعموا أن نج ًارا كانت له امرأة يح ُّبها‪ ،‬وكانت قد‬
‫ع ِلقت ً‬
‫رجال‪ ،‬فاطلع على ذلك بعض أهل النجار فأخبره‪ ،‬فأحب أن يتيقن ذلك فقال لمرأته‪ :‬اإني‬
‫أريد الذهاب اإلى قرية هي منا على فراسخ لعمل هنالك ً‬
‫عمال لبعض الشراف‪ ،‬وإاني غائب ِ‬
‫عنك‬
‫أاي ًما فأ ِع ِدي لي زادًا؛ ففرحت المرأة بذلك وأعدت له زادًا‪ ،‬فلما أمسى قال لها‪ :‬اس توقِقي من ابب‬
‫الدار واحفظي بيتك حتى أرجع اإليك‪ ،‬فخرج وهي تنظر اإليه حتى جاوز الباب‪ ،‬قم دخل من مكان‬
‫خفي من منزل جار له‪ ،‬واحتال حتى دخل تحت سريره‪ ،‬وأرسلت المرأة اإلى خليلها أن ائ ِتنا؛ فاإن‬
‫الرجل النجار قد خرج في حاجة له يغيب فيها أاي ًما‪ ،‬فأاتها الرجل فهيأت له طعا ًما فأكال وسقتْه‪ ،‬قم‬
‫تضاجعا على السرير ولبثا في شأنهما ًليال طو ًيال‪ ،‬قم اإن النجار غلبه النعاس فنام‪ ،‬فخرجت رجله‬
‫‪10‬‬
‫حب‬
‫من تحت السرير‪ ،‬فرأتها امرأته فأيقنت ِ‬
‫ابلشر فسارت خليلها أ ِن ارفع صوتك فسلني‪ :‬أيما أ ُّ‬
‫ا ِ‬
‫إليك أان أو زوجك‪ ،‬وإاذا امتنعت فألِح علي‪ ،‬فسألها عما قالت عليه فردت عليه‪ :‬اي خليلي‪ ،‬ما‬
‫يضطرك اإلى هذه المسألة‪ ،‬وما حاجتك اإليها؟ فألح عليها كما أوصته‪ ،‬فقالت له‪ :‬ألست تعلم َأان —‬
‫معشر ِالنساء — اإنما نريد ال ِخالء لقضاء الشهوة‪ ،‬ولس نا نلتفت اإلى أحسابهم ول إالى شيء من‬
‫أمورهم‪ ،‬فاإذا قضينا من أحدهم أر ًاب كان كغيره من الناس‪ ،‬فأما الزوج فاإنه بمنزلة الب والخ‬
‫والولد‪ ،‬وأفضل من منزلتهم! فلحا الله امرأ ًة ل يكون زوجها عندها ك ِعدل نفسها أو أحب اإليها منها!‬
‫فلما سمع النجار هذه المقالة وقِ من زوجته ابلمودة‪ ،‬وبقي موضعه اإلى الغد‪ ،‬فلما علم أن الخليل‬
‫يذب عنها‪ ،‬فلما تحركت قال لها زوجها‪:‬‬
‫قد خرج‪ ،‬قام فوجد امرأته متناومة‪ ،‬فقعد عند رأسها وجعل ُّ‬
‫بت الليلة ساهرة‪ ،‬ولول كراهة ما ِ‬
‫اي حبيبة نفسي‪ ،‬انمي فاإنك ِ‬
‫ساءك لقد كان بيني وبين ذلك الرجل‬
‫صخب شديد‪.‬‬
‫وإانما ضربت لكم هذا المثل لئال تكونوا كذلك النجار الذي كذب بما علم وتغافل‪ ،‬فال تص ِدقوا هذا‬
‫عدوه ابلمباعدة حتى يلتمسه‬
‫ثيرا من العدو ل يس تطيع ضرر ِ‬
‫الغراب في مقالته‪ ،‬واعلموا أن ك ً‬
‫ابلمقاربة والمسامحة‪ ،‬وإاني لم أخ ِف الغرابن حتى رأيت هذا الغراب‪ ،‬وسمعت مقالتكم فيه‪ ،‬فلم‬
‫‪.‬يلتفت ملك البوم وسائر وزرائه اإلى كالمه‪.‬‬
‫خيرا ويكرم ويحسن اإليه‪ ،‬فقال‬
‫قم اإن ملك البوم أمر أن يحمل الغراب اإلى مكانهن فيوصى به ً‬
‫لعدو المخوف‬
‫فلتكن منزلته منكم منزلة ا ِ‬
‫الوزير المشير بقتله‪ :‬اإذا لم يقتل الملك هذا الغراب ْ‬
‫المحترس منه؛ فاإن الغراب ذو أدب ومكر ومكيدة‪ ،‬وما أراه يرضى ابلمقام معنا‪ ،‬ول جاء إالينا اإل‬
‫لما يصلحه ويفسدان‪ .‬فلم يرفع الملك بقوله رأ ًسا‪ ،‬ولم يزدد اإل كرام ًة للغراب وإاحساانً اإليه‪ ،‬وكان‬
‫يكلمه اإذا دخل عليه‪ ،‬و ِ‬
‫الغراب ِ‬
‫يكلم من يخلو به من البوم كال ًما يزدادون به قق ًة كل يوم‪ ،‬وإاليه‬
‫ً‬
‫استرسال‪ ،‬وله تصديقًا‪ ،‬قم اإنه قال ذات يوم لجماعة من البوم وفيهن البوم الذي أشار بقتله‪ِ :‬لي ْب ِلغن‬
‫بعضكن الملك عنِي أن الغرابن قد وترتني تِرة عظيمة بما فضحتني وعذبتني‪ ،‬وأني ل يستريح قلبيي‬
‫منهن أبدًا حتى أُد ِرك منهن قأري‪ ،‬وأني قد نظرت في ذلك فلم أجدني أس تطيعه وأان غراب‪ ،‬وقد‬
‫بلغني عن بعض أهل العلم أنهم قالوا‪ :‬من طابت نفسه عن نفسه فأحرقها ابلنار‪ ،‬فقد قرب قرابانً اإلى‬
‫الله عظي ًما‪ ،‬وإانه ل يدعو عند ذلك بدعاء اإل اس تجيب له‪ ،‬فاإن رأى الملك أن يأمر بيي فأُحرق‪ ،‬قم‬
‫عدوي وأشفي غليلي اإذا تحولت في صورة البوم‪ ،‬قال اله‬
‫فيحولني بو ًما ِلعلي أنتقم من ِ‬
‫أدعو ربِيي ِ‬
‫‪11‬‬
‫البوم الذي كان يشير بقتله‪ :‬ما أش بِهك في حسن ما تبدي وسوء ما تخفي‪ ،‬اإل ابلخمر الطيبة الريح‬
‫الحس نة اللون الْمنقع فيها الس ُّم المميت‪ ،‬أرأيتك لو أحرقناك ابلنار كان جوهرك وطباعك تحترق‬
‫معك؟ فاإن الشر يدور حيثما دارت‪ ،‬قم تعود اإلى أصلك وطباعك؛ كالفأرة التي وجدت من الزواج‬
‫الشمس والسحاب والريح والجبل‪ ،‬فتركت ذلك كله‪ ،‬وتزوجت جر ًذا‪ ،‬قال الغراب‪ :‬وكيف كان‬
‫ذلك؟ قال البوم‪ :‬زعموا أن انسكًا كان مس تجاب الدعوة‪ ،‬فبينا هو ذات يوم قاعد على شاطئ نهر‬
‫اإذ مرت به حدأة في رجلها درصة؛ فوقعت منها عند الناسك‪ ،‬فأدركه لها رحمة‪ ،‬فأخذها ولفها في‬
‫يحولها‬
‫ردنه‪ ،‬وأراد أن يذهب بها اإلى منزله‪ ،‬قم خاف أن يش على امرأته تربيتها‪ ،‬فدعا ربه أن ِ‬
‫عطيت حس نًا ً‬
‫جارية‪ ،‬فتحولت جارية وأُ ِ‬
‫وجمال‪ ،‬فانطل بها الناسك اإلى منزله‪ ،‬وقال لمرأته‪ :‬هذه‬
‫ابنتي فاصنعي بها صنيعك بولدك‪ ،‬ورابها أحسن التربية‪ ،‬ولم يع ِلمها قصتها وما كان منها‪ ،‬فلما بلغت‬
‫اقنتي عشرة س نة قال لها‪ :‬اي بنية! اإنك قد أدر ِ‬
‫كت‪ ،‬ول بد لك من زوج يقوم بأمرك ويكفلك‪ ،‬ولنفرغ‬
‫قواي‬
‫من الشغل بك‪ ،‬فاختاري من أحببت من الناس كلهم أ ِزوجك منه‪ ،‬قالت الجارية‪ :‬أريد زو ًجا ًّ‬
‫شديدًا مني ًعا‪ ،‬فقال الناسك‪ :‬ما أعرف أحدًا كذلك اإل الشمس‪ ،‬فانطل الناسك اإلى الشمس فقال‬
‫لها‪ :‬اإن عندي جاري ًة جميلة‪ ،‬وهي بمنزلة الولد لي‪ ،‬وأان أسألك أن تتزوجها‪ ،‬فقالت الشمس‪ :‬أان‬
‫أدلك على من هو أقوى مني وأشد؛ قال الناسك‪ :‬ومن هو؟ قالت‪ :‬السحاب الذي يسترني ويذهب‬
‫بضوئي‪ ،‬فأتى الناسك السحاب فسأله تز ُّوج الجارية‪ ،‬فقال‪ :‬أان أدلُّك على من هو أقوى منِي وأشد‪،‬‬
‫الريح التي تقبِل بيي وتدبِر‪ ،‬فانصرف الناسك اإلى الريح فسألها تز ُّوج الجارية‪ ،‬فقالت له‪ :‬أان أدلُّك‬
‫على م ْن هو أقوى منِي‪ ،‬الجبل الذي ل أس تطيع أن أحركه‪ ،‬فانطل الناسك اإلى الجبل فقال له‬
‫مثل مقالته للريح‪ ،‬فقال له الجبل‪ :‬أان أدلك على من هو أقوى مني‪ :‬الجرذ الذي ينقبني فال أس تطيع‬
‫متزوج هذه الجارية؟ فقال الجرذ‪ :‬كيف‬
‫له حيلة ول أمتنع منه؛ فقال الناسك للجرذ‪ :‬هل أنت ِ‬
‫يصيرك فأرة وأ ِزوجك‬
‫أتزوجها وجحري ِ‬
‫ضي ؟ فقال الناسك للجارية‪ :‬هل ِلك أن أدعو ربيي أن ِ‬
‫يحولها فأرة‪ ،‬فتحولت فأرة وتزوجها الجرذ؛ فهذا مثلك أيها‬
‫ابلجرذ؟ فرضيت بذلك‪ ،‬فدعا ربه أن ِ‬
‫المخا ِدع في العود اإلى أصلك‪.‬‬
‫فلم يلتفت ملك البوم ول غيره منهن اإلى هذا المثل‪ ،‬ورفقن ابلغراب‪ ،‬ولم يزددن له اإل كرام ًة حتى‬
‫اس تقل ونبت ريشه ونما وصلح وعلم ما أراد أن يعلم واطلع على ما أراد ِ‬
‫الطالع عليه‪ ،‬قم اإنه راغ‬
‫روغة اإلى الغرابن‪ ،‬فقال لملكهم‪ :‬أُ ِبشرك بفراغي مما أردت الفراغ منه من أمر البوم‪ ،‬وإانما بقي ما‬
‫ِقبلك و ِقبل أصحابك‪ ،‬فا ْإن أنتم صر ْمتم وابلغتم في أمركم فهو هالك البوم؛ فقال الغرابن وملكهم‪:‬‬
‫‪12‬‬
‫نحن عند أمرك‪ .‬فقال‪ :‬اإن البوم بمكان كذا وكذا‪ ،‬وهن ابلنهار يجتمعن في مغار في الجبل‪ ،‬وقد‬
‫علمت مكاانً كثير الحطب‪ ،‬فتعالوا نعمد اإليه‪ ،‬وليحمل كل غراب منا ما اس تطاع اإلى ذلك النقب‪،‬‬
‫ضراب‬
‫وقرب ذلك الجبل راعي غنم‪ ،‬وأان مصيب منه ًانرا فألقيها في الحطب‪ ،‬وتعاونوا أنتم ً‬
‫بأجنحتكم؛ أي نفخًا وتروي ًحا للنار حتى تضطرم وتتأجج‪ ،‬فما خرج من البوم احترق ابلنار‪ ،‬وما بقي‬
‫مات خنقًا ابلدخان؛ ففعلوا ذلك فهلك جميع البوم‪ ،‬ورجع الغرابن اإلى أوطانهن أمنات‪.‬‬
‫قم اإن ملك الغرابن قال لذلك الغراب‪ :‬كيف صبرت على صحبة البوم‪ ،‬ول صبر للخيا ِر على‬
‫صحبة الشرا ِر؟ قال الغراب‪ :‬اإن ذلك كذلك‪ ،‬ولكن الرجل العاقل اإذا انبه المر الفظيع الذي‬
‫يخاف فيه الهلكة الجائحة على نفسه وقومه‪ ،‬لم يجد بدًّا من احتمال الضي ‪ ،‬ولم يجزع من شدة‬
‫الصبر لما يرجو لذلك من روح العاقبة‪ ،‬ولم يجد لذلك مساءة‪ ،‬ولم يك ِرم نفسه عن الخضوع لمن‬
‫هو دونه حتى يبلغ حاجته وهو حامد لِ ِغ ِب أمره‪ ،‬ومغتبط بما كان من رأيه واصطباره على ما كان‬
‫فيه‪ .‬قال الملك‪ :‬فأخبرني عن عقول البوم‪ ،‬قال الغراب‪ :‬لم أجد فيهن ً‬
‫عاقال اإل الذي كان يشير‬
‫بقتلي‪ ،‬وكن أضعف شيء رأ ًاي‪ ،‬لم ينظرن في أمري‪ ،‬ولم يذكرن أني كنت ذا منزلة من الملك‪ ،‬وأنِي‬
‫أُع ُّد من ذوي الرأي‪ ،‬فلم يتخوفن من مكري وحيلتي‪ ،‬وأخبرهن الحازم الرأي الناصح فرددن نصحه‪،‬‬
‫فال هن عقلن‪ ،‬ول من ذوي الرأي قبِلن‪ ،‬ول ح ِذ ْ نرني ول حصن سرهن دوني‪ ،‬وكان يقال‪ :‬ينبغي‬
‫للملك أن ِ‬
‫يحصن دون المتهم سره وأمره‪ ،‬فال يدنو من موضع أسراره وأموره وكتبه‪ ،‬ول من سالحه‬
‫ول من طعامه وشرابه‪ ،‬حتى من الماء والفرش التي يجلس عليها‪ ،‬والحل ِة التي يلبسها‪ ،‬والداب ِة التي‬
‫الطيب الذي يس تعمله‪،‬‬
‫يركبها‪ ،‬والدوية التي يشربها‪ ،‬وإاكليل الريحان الذي يضعه على رأسه‪ ،‬و ِ‬
‫وكل شيء يدنيه منه‪ ،‬ول يأمن على نفسه اإل الثقة عنده‪.‬‬
‫والشعا ِر الذي يتخذه‪ِ ،‬‬
‫قال ملك الغرابن‪ :‬لم يه ِلك م ِلك البوم اإل بغيه وضعف رأيه ورأي وزرائه‪ ،‬قال الغراب‪ :‬صدقت‪،‬‬
‫قلما ظفر أحد يبغي‪ ،‬وقل من حرص على النساء فلم يفتضح‪ ،‬وقل من أكثر من الطعام فلم يسقم‪،‬‬
‫وقل من ابتلي بوزراء السوء اإل وقع في المهالك‪ ،‬وكان يقال‪ :‬ل يطمعن ذو ال ِكبْر والصلف في الثناء‬
‫دب في الشرف‪ ،‬ول الشحيح في‬
‫الخب في كثرة الصدي ‪ ،‬ول الس ييئ ال ِ‬
‫الحسن‪ ،‬ول يطمعن ُّ‬
‫البر‪ ،‬ول الحريص في قلة الذنوب‪ ،‬ول الم ِلك المتهاون الضعيف الوزرا ِء في بقا ِء ملكه‪.‬‬
‫ِ‬
‫تضرعك لهن‪ ،‬قال الغراب‪ :‬إانه من احتمل‬
‫قال الملك‪ :‬لقد احتملت مشقة شديدة بتصنُّعك للبوم و ُّ‬
‫مشقة يرجو فيها منفعة صبر على ذلك‪ ،‬كما صبر ال ْسود على حمل الضفدع‪ ،‬قال الملك‪ :‬وكيف‬
‫‪13‬‬
‫كان ذلك؟ قال الغراب‪ :‬زعموا أن أ ْسود ك ِبر وه ِرم ولم يس ِتطع الصيد‪ ،‬فدب م ً‬
‫تحامال حتى انتهيى‬
‫ئيب‬
‫اإلى غدير كثي ِر الضفادع‪ ،‬كان يأتيه فيتصيد من ضفادعه‪ ،‬فوقع قري ًبا من العين شبيهًا ابلك ِ‬
‫الحزين‪ ،‬فقال له أحد الضفادع‪ :‬ما شأنك حزينًا؟ قال‪ :‬ومالي ل أكون حزينًا وإانما كان خير عيشي‬
‫مما كنت أصيد من هذه الضفادع‪ ،‬فابتليت ببالء ح ِرمت علي الضفادع‪ ،‬حتى اإني لو أصبت بعضها‬
‫لم أجترئ على أكله‪ ،‬فانطل الضفدع اإلى ملكها فأخبره بما سمع من ال ْسود‪ ،‬فأتى الملك اإلى ال ْسود‬
‫وسأله عن ذلك فأخبره به‪ ،‬فسره ما سمعه منه‪ ،‬فقال له ملك الضفادع‪ :‬ولِم ذلك؟ وكيف كان أمرك‬
‫هذا؟ قال‪ :‬اإني ل أس تطيع أن أخذ من الضفادع شيئًا اإل ما يتصدق به الملك علي‪ ،‬قال‪ :‬ولِم ذلك؟‬
‫قال‪ :‬لني سعيت في اإثر ِضفدع من أايم لخذه‪ ،‬فاضطررته اإلى بيت انسك‪ ،‬فدخل البيت ودخلت‬
‫في أثره‪ ،‬وفي البيت ابن الناسك‪ ،‬فأصبت اإصبع الغالم وظننته الضفدع‪ ،‬فلدغته فمات‪ ،‬فخرجت‬
‫هاراب فتبعني الناسك ودعا علي ولعنني وقال‪ :‬كما قتلت هذا الغالم ظل ًما له‪ ،‬أدعو عليك أن ت ِذل‬
‫ً‬
‫وتخزى وتكون مرك ًبا لملك الضفادع وتحرم أكلها اإل ما يتصدق به عليك ملكها‪ ،‬فأتيت اإليك لتركبني‬
‫م ِق ًّرا بذلك راض ًيا به‪ ،‬فرغب ملك الضفادع في ركوب ال ْسود‪ ،‬وظن أن ذلك شرف له و ِرفعة‪،‬‬
‫فر ِكب ال ْسود أاي ًما قم قال ال ْسود‪ :‬قد علمت أني محروم ملعون‪ ،‬ول أقدر على الصيد إال ما‬
‫تصدقت به علي من الضفادع‪ ،‬فاجعل لي رزقًا أعيش به‪ ،‬فقال ملك الضفادع‪ :‬لع ْمري ما لك بد من‬
‫رزق تعيش به ويقيمك‪ ،‬فأمر له بضفدعين كل يوم يؤخذان فيدفعان اإليه‪ ،‬فعاش بذلك ولم يضره‬
‫للعدو الذليل‪ ،‬وصار ذلك له معيش ًة ورزقًا‪.‬‬
‫خضوعه ِ‬
‫عدوان‬
‫وكذلك كان صبري على ما صبرت عليه التماس هذا النفع العظيم الذي حصل لنا به بوار ِ‬
‫ً‬
‫للعدو من صرعة المكابرة؛ فاإن النار ل‬
‫والراحة منه‪ ،‬قال الملك‪ :‬وجدت صرعة المكر أشد‬
‫استئصال ِ‬
‫بحرها و ِحدتِها اإذا أصابت الشجرة على أن تح ِرق ما فوق الرض منها‪ ،‬والماء ِب ِلينِ ِه وبرده‬
‫تزيد ِ‬
‫يس تأصل ما تحت الرض‪ ،‬وكان يقال في أربعة أش ياء ل يس تق ُّل منها القليل‪ :‬النار والمرض‬
‫والعداوة والديْن‪.‬‬
‫قال الغراب‪ :‬ك ُّل ما كان في ذلك فبرأي الملك وسعاد ِة ج ِده‪ ،‬فاإنه قد كان يقال‪ :‬اإذا طلب اقنان أ ًمرا‬
‫ظفر به أفضلهما مروءة‪ ،‬فاإن اس تواي في المروءة فأفضلهما أعواانً ‪ ،‬فاإن اس تواي في ذلك فأسعدهما‬
‫جدًّا‪ ،‬وقد كان يقال‪ :‬من غالب الملك الحازم الريب المصنوع له الذي ل تبطره السراء ول يد ِهشه‬
‫‪14‬‬
‫الخوف؛ فاإن ح ْينه يجدر به‪ ،‬قم ل س يما اإذا كان مثلك أيها الملك العالِم ابلمور وفرص العمال‬
‫ومواضع الشدة واللين والغضب والرضا والعجلة والانة‪ ،‬والناظر في يومه وغده وعواقب أعماله‪.‬‬
‫العدو من كثير العدد من‬
‫قال الملك‪ :‬بل برأيك وعقلك كان هذا؛ فاإن الرجل الواحد أبلغ في اإهالك ِ‬
‫ذوي البأس‪ ،‬وإان من أعجب أمرك عندي طول لبثك عند البوم وأنت تسمع الغيظ وتراه‪ ،‬قم ل‬
‫تسقط عندهم بكلمة؛ قال الغراب‪ :‬لم أزل متمسكًا بأدبك أيها الملك؛ أصحب القريب والبعيد‬
‫ابلرف واللين والمتابعة والموااتة‪ .‬قال الملك‪ :‬وجدتك صاحب عمل‪ ،‬ووجدت غيرك من الوزراء‬
‫ِ‬
‫أصحاب أقاويل ليست لها عاقبة‪ ،‬ولقد من الله بك علينا ِمن ًة عظيم ًة‪ ،‬لم نكن نجد قبلها لذة الطعام‬
‫والنوم‪ ،‬فاإنه كان يقال‪ :‬ل يجد السقيم لذة النوم حتى يبرأ‪ ،‬ول الرجل الش ِره الذي أطمعه السلطان‬
‫في مال أو ولية حتى ينجز له ذلك‪ ،‬ول الرجل الذي قد ألح عليه عد ُّوه — وهو يخافه صبا ًحا‬
‫ومسا ًء — حتى يستريح منه‪ ،‬وكان يقال‪ :‬من أقلعت عنه الحمى استراح بدنه وقلبه‪ ،‬ومن و ِضع‬
‫عنه ال ِحمل الثقيل استراح منكبه‪ ،‬ومن أ ِمن عدوه ق ِلج صدره‪.‬‬
‫قال الغراب‪ :‬أسأل الله الذي أهلك عدوك أن يمتِعك بسلطانك‪ ،‬وأن يجعل في ذلك صالح‬
‫رعيتك‪ ،‬ويش ِركهم في قرة العين بملكك؛ فاإن الملك اإذا لم يكن في مملكته قرة عيون رعيته‪ ،‬فمثله‬
‫مثل ِ‬
‫ذات الضرع الضخم اإذا وضعت ولدها لم يكن فيه ما يكفيه‪ ،‬قال الملك‪ :‬كيف كانت سيرة‬
‫ملك البوم في جنده؟ قال‪ :‬سيرة بطر وأشر وفخر وخيالء وعجب وضعف رأي‪ ،‬وك ُّل أصحابه‬
‫ووزرائه كان شبيهًا به اإل الذي كان يشير بقتلي‪ .‬قال الملك‪ :‬وما رأيت منه مما اس تدللت به على‬
‫عقله؟ قال‪ِ :‬لخلتين‪ :‬اإحداهما‪ :‬رأيه — كان — في قتلي‪ ،‬والخرى‪ :‬أنه لم يكن يكتم صاحبه‬
‫نصيحة وإان استثقلها‪ ،‬ولم يكن كالمه مع هاتين كالم خرق ومكابرة‪ ،‬ولكن كان كالم ِرف ولين‪،‬‬
‫حتى ربما أخبره بعيبه وهو ل يغضبه‪ ،‬اإنما يضرب له المثال و ِ‬
‫عيب غيره فيعرف به‬
‫يحدقه عن ِ‬
‫عيبه‪ ،‬ول يجد للغضب عليه ً‬
‫سبيال‪ ،‬وكان مما سمعته يقول للملك أن قال‪ :‬ل ينبغي للملك أن يغفل‬
‫عن أمره‪ ،‬فاإنه أمر جس يم ل يظفر بمثله اإل القليل‪ ،‬ول ينال اإل ابلحز ِم‪ ،‬وهو خفيف الس تقرار‬
‫تقر ساعة واحدة‪ ،‬وهو في الإقبال والإدابر كا ِلريح‪ ،‬وفي الثقل كصحبة البغيض‪،‬‬
‫كالقرد الذي ل يس ُّ‬
‫‪.‬وفيما يخاف من معاجلة عطبه كلسعة الحية‪ ،‬وفي سرعة الذهاب كحباب الماء من وقْع المطر‪.‬‬
‫‪15‬‬
Téléchargement